مرايا الزمان

أ. طانيوس منعم



مرايا الزمان



شعر




1979




©جميع الحقوق محفوظة©






نُزهـَة



نَجعْتُ إِلى الوادي أُروِّض أَفكاري
وقد سئمت نفسي الإِقامةَ في داري
مَهدْت الحصى البيضاءَ فَرشاً لراحتي
وخيَّمَ فوقي ظِـل أغصان أشجارِ
فأنعشني عَرْفُ الأَزاهـير عابقاً
وأَبعدني عن همِّيَ الجدولُ الجاري
وقد راودتني ذِكرياتٌ مَشوقةٌ
تهُيب بقلبي يقتفي إِثرَ أَنظـاري
تجوب الروابي لحظـةً بعد لحظةٍ
كأنَّ لهـا فيها .. مآثرَ تذكـارِ
هناك بأَنفِ الطود قُطعان ماعز
وفي جنَبات السفح ثيرانُ أكـَّارِ
وخلفيَ حرشاءٌ ضحوكٌ تناغمـتْ
على أيكـها الميـَّادِ جوقةُ أطيارِ
خلِيَّـةُ همٍّ لا يشوبُ هناءَهـا
شقاءٌ ولم تحفِلْ بغُرشٍ ودينـارِ
لها الجوُّ ميداناً تطوفُ رِحابـه
بحرّيَّةٍ تُزري بسُلطـة أمَّـارِ
وتمتارُ من جُود الطبيعة قوتها
بدون « وزيرٍ »، أو شهادة « مختار »
وتأكل إِن جاعت وليس يُخيفُها
وحوشُ احتكارٍ، او تكالب تُجّارِ
هنيئاً لها تحيـا حيـاةً شريفةً
وقبحاً لنا نختالُ بالإِثم والعارِ ..

عزفت عزوفاً عن حِمى الناس في الحمى
كمِثلِ وفيٍّ عن صداقةِ غدَّارِ
فما لي في منآي عنهم غضاضةٌ
ولا في اقترابي منهمُ حرمةُ الجار
ولست أرى في عالم الطير مِثلَما
رأيتُ لهم أرضاً تُقـاس بأشبارِ
وبينا أنا في يقظة الحُـلمِ والرُؤى
على فَوح أزهارٍ وأنغام أطيارِ
إِذا بغُرابٍ قيَّدَ الغُلُّ رجلَه
يُعالج فكَّ القيد منها بمنقارِ(1)
ففضَّلت أني طائرٌ فكَّ قيدَه
ولست بإنسانٍ يهونُ لجبَّار
وفي خاطري شعبٌ يعي ذات نفسه
محرَّرَةَ الآمالِ من رِقِّ أغيارِ ..





السعادة الضائعة(2)



سئمت حياةً عشتُها طالباً مجدا
فما بوسُها بؤساً، وما سعدُها سعدا
طوَيتُ بها سبعاً وعشرين حِجَّةً
تتالَت مع الساعاتِ حافِلةً كدَّا
وأرسلْت طرفاً باحثاً عن سعادتي
وأطلقت قلبي خلفها يُبرم العهدا
فما عودتني وصلَها . . غيرَ أنني
ظلِلْتُ إِليها أقطعُ السهل والنجدا
تخيَّلْتُها في هدأةِ الليلِ ساهراً
أُسامِرُ أصحابي وأَصدُقهُم وُدَّا
وراقبتُها في شاهق القصر تزدهي
بثوبٍ من الدِيباج عابقةً ندَّا
توهَّمتُها في بسمةِ الفجر والضحى
وفي كلِّ ما يستجمِع الثغرَ والخدَّا
وألويتُ نحو الكوخ أقفو رسيمَها
فلم أرَ إلا حولَه البؤس ممتدَّا
وألفيتها في عُزلةٍ عن مباذلٍ
وفي الشارع المكتظِّ جانبُه حَشدا
وفتَّشت عنها في كتابٍ، ومُصحَفٍ
وساءَلت عنها العبدَ والمَلْكَ والجُندا
تجوَّلت من قصرٍ لكوخٍ لشارعٍ
فما نفعَ التَجوالُ شيئاً ولا أجدى
ٱ●ٱ
عجِبت لمملوكٍ يَهونُ لمالكٍ
وربُّك لم يخلُقْ مليكاً ولا عبدا
وأعجبُ من تَرْبٍ يَدينُ لمُوسرٍ
وما اليُسر بالأموالِ وافرةً عدَّا
وأعجبُ من جيشٍ يُساقُ بقائدٍ
طموحٍ الى هيجائه يبتغي المجدا
وأبرأُ من دينٍ يفرِّقُ أنفساً
أليس الذي للكون أبدعها فردا ؟!
وأُشفق من شعب برى الذُّلُّ ظهرَه
يُحكِّم فيه ذلُّه السوطَ والحدَّا
وويلاً له ! إلَّمْ يلُمَّ شعوثَه
ولم يستقمْ نهجاً، ولم يتَّحِدْ قصدا
وتبَّاً له ؛ إِن فرَّقَ الدينُ شملَه
لِتمتدَّ أيدي الأجنبي له مدّا
لحى الله من دسَّ الخصامَ مُمذْهَباً
ليرفعَ من أطماعه فوقه بِنْدا
عقدنا على « الدستور » آمال أُمَّةٍ
فشعَّثها قرباً وشتَّتَها بعدا
ولا خيَر فيه غيرَ أن نُصوصَه
تُثيرُ بنا في كلِّ سانحةٍ حقدا
أنا من يرى في جسم لبنانَ آفةً
تدسُّ به البؤسى وتخترمُ الجلدا
فإن تبتُروها تبتُروا دُمَّل الأذى
وإِلا أَعِدُّوا النعش واحتفِروا اللحدا
انا من يرى لبنانَ فوق حياته
ويَحسَب أن الذمَّ في حبِّه حمدا
ولكنني أشقى الورى في اضطرابِه
وأسعدُهم فيه إذا أمرُه استدّا
أنا من يرى سَعداً بوحدةِ قومه
ولو أنني خُيِّرْت لاخترتُها خلدا
ولكنني .. غيرُ الألى يحكمونَه
ليغترِفوا من بؤسه الخيرَ والرِفدا
ولو أنَّ لي حُرِّيةَ القولِ فيهُمُ
لا شبعتُهم نقداً وأوسعتهم صدَّا
فما لي في فقري شقاءٌ، وإنما
شقائيَ أن أبقى بمترَبتي عبدا
ولي في ربوع العُرْب يوم اتحادهم
سعادة من صلَّى وراحةُ من أسدى





كوخ و قصر



بَيْتٌ هناكَ ..
بنيتُه حجراً الى حجرٍ، بلا نصبٍ أُحِسُّ به،
على عَرَقٍ تصبَّبْ
إِنَّهُ أَمَلٌ مُحبَّبْ ..
أَن يُشادَ، وأَن يكونَ كما رسمت له،
بناءً شامخاً للعِلم أَرحَبْ ..
* * *
كم ليلةٍ طال السُّهادُ بها
وإِزميلي .. ومطرقتي تضِجُّ
ولا أُبالي
نامتِ الجارةُ أَم ظلَّت على الضجة
تسهـرْ
وتسُبُّ الشُغلَ والشاغلَ ليلاً ونهاراً
همَّني أن أسمك البيت جــداراً
فجـدارا
لا أُراعي حُرمة الجارِ ولا أرْحمُ
جارا ..
كانَ كوخاً، فاستوى، ما شئتُ،
أن يستويَ البيــتُ المعمَّرْ !
هو في غدِهِ المنظور مِلْكٌ ليس اكثر
مِلكُ من يلتمسُ النـورَ ويرتادُ
المُناخاتِ الرفيعه.
ليس لي فيه سوى العيشِ مدى
العُمرِ المقدَّر
فأنا مَن لا يخــال القبر موتاً
حين أُقبَرْ
تتخطَّاه بشيءٍ منك أكـبَرْ
ببقاءٍ منك أجدَرْ
وخلودٍ منك أدهَرْ..!
هو ذاتي
ذوبُ أتعابي
دُفَاقٌ من حياتي
نفحةٌ من ذكرياتي
وأُصيحابي..
وبعضٌ من رِفاقي
أنا هذا الكلُّ أحياهُ..
ويحيا..
نبضةً من نبضاتي
لَهْثةً من لَهثاتي
* * *
زُمرةُ الحاكم شَقَّ الفجرَ، غارت
تتسلَّلْ
زنَّرتْ كـوخي بعسكـرْ
تتعلَّلْ..
بأفاعيلَ توافِه
أتُرى تستلُّ أَوراقي؟
يراعي؟ ودواتي
أَم سلاحي؟ ما سلاحي؟
فأنا أعزلُ إِلا من يراعي
ودواتي..
ويَقيـني بقناعاتـي يقيني
عُصَبـاً تغتـال أحلامـي
وآمالي العريضه
بأعابيثَ بغيضه
وأكاذيبَ مريضه..
* * *
تحت أقداميَ « معبودٌ » إلهٌ
يترامى دونَهُ خُلـقٌ وضيعُ
جائـعٌ لا يشبعُ منهومٌ..
ولم يَبرَحْ يجوعُ
من مآسيه جـراحٌ ودموعُ
لا أُحِب الخُلُقَ المبـذوءَ
لا..لا أستطيع
ضاع مـا أُحسِنُه من عملي
أو لا يضيعُ





فداء..ودماء



في أَرض يعرُبَ
ثورةٌ.. وفِداءُ
وبكل بيتٍ نجدةٌ وعطاءُ
يا للكفاح..!
وقد تضرَّمَ وَقدُهُ
فاذا امتدادُ لهيبِه الأرجاءُ
جيشُ الفداءِ..
مصورَخاً
ومقنبَلاً
أرضٌ تضِجُّ به .. تضجُّ سماءُ
حضن اليسارُ جنـاحهُ
بيَسارِه
فإذا يمينُ عدوِّه شلاَّءُ
ينقضُّ..
يفترسُ الدخيلَ، كأنَّما
مِلكٌ له الساحاتُ
والأَجواءُ
بالفتحِ يَفتَتِحُ الخلاصُ طريقَه
حتى يُنَكَّسَ للدخيلِ
لواءُ
وُيلملمَ الوطنُ الجريحُ شريدَه
ويتِمَّ عن أرضِ الشريدِ
جَلاءُ
ليس السليبُ
بمُسترِدٍ حقه
قدَراً .. فأثمانُ الحقوقِ
دماءُ !
قا لوا : السلام ..
وأمعنوا في كيدِه
فهلِ السلامُ
هزيمةٌ نكراءُ ؟!
دنيا العروبةِ
تستعيدُ سلامَها
بالقوَّتَين : تسلُّحٌ وفداء
جيلٌ من الثورات
ليس يَروعُه حَتْفٌ
فكلُّ رعيلِه شهداءُ ..





طير وصخر وقمر



على شَرَفٍ فوق المدينةِ
أَعزلٍ عن الناس
لكن، جوُّه الأُنس والسَمرْ
وجدتُ به، في آخر العمر،
نُجعةً
أَفيءُ إِليها كلمَّا مسَّني الضجرْ
ولي فيه، بين الطير، معشرُ إخوةٍ
وفي الصخر لي جـارٌ
ولي جــاريَ القمَرْ
تُباكرني، في الفجر، بعضُ طيوره
فتُوقظني فجراً
وتُطربُني سَحَرْ
هنا .. وهنا ذِكرى ..
وبعضُ طفولتي
وجُهدُ أبٍ في كُلِّ شِبْرٍ
له أثَرْ
تُخبِّرُني عنه جراحُ صُخورِه
ورُبَّ جراحٍ
ملءُ أفواهِها خَبَرْ
وبيني وبين النَـبْتِ
نجوى سرائرٍ
مبرَّأةٍ مما ينِمُّ به بَشَرْ
وفوق الحصى البيضاءِ آثارُ أدمُعٍ
هَمَت من جفونِ الليل
فانعقدت دُرَرْ ..
وبين يدي، كالتبرِ،
أرضٌ، ترابها يقول لذي بَذْرٍ :
هنيئاً لمن بَذَرْ
هناك عيونُ النجم
ترعى سَكينتي
فلا الليلُ يُؤذِيني
بما بَانَ واستتَرْ
وحوليَ مِمّا للجمالاتِ سحرُها
جمالاتِ أطفالي من الزَّهر والشَجرْ
أمامىَ آفاقٌ تراخت حدودُها
تمتَّعَ فيها الطَرْفُ
واسترسل البصَرْ
وتحتيَ بحرٌ ..
تحت أقدام شُرفَتي
يقبّلها لثماً
ويحنُو على الحَجرْ
هنـا ..
في ربوع « المنعمية »
راحةٌ لذِي تَعَبٍ
مما ابتلاهُ به القدَرْ
وما ذاك زهْداً في الحياة وعزلةً
بـلى .. قرَفٌ مِمَّن
على هِيئَةِ البَشَرْ !؟(3)
سئمتُ من الأعوام أحمِل عبئَها
وقد أشبعتني عَبْرَ أيامِها
عِـبَرْ
تشاءَمْتُ؟! لا أَدري؟!
وكم مُتشمائِمً تفاؤُله بالخير
يأتي على قدَر ..!
* * *
هذه « الحرشاءُ » لا ئأكُلُ
من لحمي ..
فلي فيها، على أشواكها نُعمى
وخيراتٌ عميمَهْ
يتآخى البُطمُ والوزَّالُ والخُرنوبُ
في روحٍ من النبتِ كريمه ..
في ثغور الصخر
أزهارٌ ندِيَّه
وابتسامات سخِيَّه
ومعـاني أريحيَّه
وطيوبٌ في مدى الشمِّ
وأنفاسُ عبير ..
ومعي كونٌ من الأكوان :
من ماضٍ غنيِّ الذكرياتِ
من مآسي الوطنيَّهْ
وجنون العبقريهْ ..
من تقاليد الوثن
وعباداتِ الصنم
وانتفاضاتِ الضحايا
البشريَّهْ
هذه الأمتارُ من أرضيَ
أنباضُ الجدودِ
بعضُ حظٍّ
قد وَرِثناهُ
وجاوزْنا تخومَه
وتخطينا مساراتِ الجدودِ
وجراحاتِ القيودِ
وانحناءاتِ العبيد
ولثمنا جَبهةَ الشمسِ
منىً خُضراً
وأبعاداً قصيَّه
نجتلي العـالَمَ في نهجٍ من العيشِ
جديدِ
بشراً ناساً ..
لَهُمْ دنياهُمُ ملـكوتاً
ولهـم دُنيا سعيده
والسكينه
أَتُرى تعني الهزيمَهْ
أم تُراهــا جَمَمَ النفسِ
لأشواطٍ بعيده ؟!
أحمِلُ
في نفسيَ مأساتي غريباً
منذُ كنتُ
من ذَوي القُربى ..
ومِمَّن جهِلوا شأْوي
ظُلِمْتُ
قدَري هذا ..
صنيعي شِئتُه
وحَيِيتُ العمرَ أرعى قدَري
راضيـاً .. سِيّانِ أني بالغٌ وَطَري
أو لم أُبلَّـغ وَطَري ..





بيتَ لحم



طفـلٌ وليدُ مغارةِ الفقراءِ
هتفَت له الدُنيا هُتافَ رجاءِ
حَقَر القصورَ، كأنَّما هو ثورةٌ
تَهوِي العُروش لها بغير دِماءِ
يابيتَ لحمُ تعلَّقَت بكِ أَعينٌ
ظمأى الجفون إلى شُعاعِ ضياءِ
وُلِدَ الفداءُ على ترابك .. فانبرت
تعتاثُ فيه عِصابةُ الدُخَلاءِ
غَنِيَ الزمانُ وما نزال كأَمسِنا
شعباً يُلَصُّ بشَهوة الزُعمـاءِ
حملوا شعارَك فاستحال بضائعاً
وطوائفـاً ممجُـوجةَ الاسماءِ
والمؤمنون بنو التراب هُمُ هُمُ
طوبى لهم فِئةً من الودعاءِ
حتى متى تبقى الوداعةُ فيهُمُ
فهل الوداعةُ شيمةُ الضُعفاءِ ؟
عشقوا المغارةَ : روحَها وصفاءَها
وتميَّزوا غضباً على  » العظماءِ  » !
يا بيتَ لحمُ لك فِداءُ مشرَّدٍ ..
أيُرَدُّ مُغتَصَبٌ بغير فداءِ ؟!
إنَّ الكريمَ له الكـرامة كُلَّما
كان العَطـاءُ محبَّةً لعطـاءِ





بَيتُنا الأَول



كانت لنا
في بيتنا الأَوَّلِ،
في عهد الطفولهْ
بعضُ أحلامِ الرُجولَهْ
مرةً تشهدُ في الأرض
جداراً قد تشيَّدْ
وترى    نــيراً    ومحراثاً
وبيتاً  قد  تعمَّر
وخُشَيباتٍ تُسمَّر
وأَفاعيلَ مثـيرهْ
وتفاهاتٍ حقيرهْ
لُعَبٌ!



كانت لنا سلوى وكنَّا لا نبالي
غضِب الأهلُ ودانوا، بالعصا،
حُلم الرجـال



والكِبارْ ؟
رحِمَ الله الكِبارْ !
كُلُّ ما نَفعلُه نحن الصِّغار
شيءٌ صَغارْ !
كانت لنا
في بيتِنا الأوَّلِ .. بالأمسِ
لقاءاتٌ على ضوءِ السراجِ
تحت سطحٍ خشبيِّ السقف ..
مُسودٍّ .. تُرابيّ
نتَّقي قارِصَةَ البردِ بسدّ الثَّقْبِ
من بابٍ لبابِ
تسقُط  » الدُّلْفَة  » في إبَّانِها، فتُروِّيني
فِراشاً ولحافا ..
عِشْت في أكنافه، طِفلاً،
شقيقاً لشقيقه
ما عرفنا مَن على أَقدامها الجنَّةُ
مِن بدءِ الخليقَـه
فحُرِمْنا حِضنَها الدافي
ولم ننعَمْ بقُبلَه
وكبِرْنا .. لا نعي كيف كبِرْنا ..
وافترقنا ..
بدَدَ العيشِ، زماناً ..
وانتحى كُلٌّ طريقَهْ
واجتمعنا
في هُنَيهاتٍ من العمرِ قصيرَه ..
فَجأةً !
هاضَ جَناحي قدرٌ(4)
أبداً ..
يا هَولَ هذا القدَرِ
وتلَفت فلم أَلقَ لَهُ
غيرَ ما أَلقاهُ رسماً
في يدي .. !
 كانت لنا
في بيتِنا الأوَّلِ
أَعراقٌ سفحناها غزيره
فحصدْنا بدَلَ القمحِ زؤاناً ..
ورضِينا .. !
واجتوينا المنزِلَ المعمورَ
معموراً ..
إِلى أرضٍ جديدة
تستوي في لهْثة العامل
صخراً .. وترابا
خِصبُها الهاجعُ يخضرُّ
ويحلولي اخضرارا ..
هِمت فيها..
وأنا منها، على رؤية بعدٍ
أتطلَّعْ
يوم كانت في يدِ الريح هشيراً
وهَشيما ..
أ كسح  » الغَوفَ  » وأزرعْ
وأنا بعدُ، على الرؤيةِ بُعداً
أتطلَّعْ ..
أزرعُ الخيرَ .. وأزرعْ
ليست لنا،كالأمسِ، في بَيتِنا الأَوَّلِ
طلاَّتٌ أثيرَه
غامَ في ذاكرتي أرضاً
و جُدراناً .. وناسا
لستُ أنسى-
 عثر الحظ بِنـا-
أو أتناسى ..





عَبير الأم(5)



يومَ كُنَّا نجمع « الشيحَ » لدودِ القزِّ
كانت بعضَ ما نجمع ..
نُقلّعهـا مع الوزَّالِ والاسِ مع الزُكْبى
نُغمِّرها .. ونحمِلها ..ونقطِفُها حريراً
آخِرَ الموسم
عبيرَ الأُمّ ..
كان أَبي يُسمِّي هذه النِبتهْ :
عبيرٌ مِلءُ شمِّ الأَنفِ، في
أوراقِها المُخمَل



فنَنشَقُها .. ونمرْيها بأَيدينا ..
وننشَقُها حَناناً، فوحُه بلسَمْ
ونهنا آخِرَ الموسِم



وفي ذاكرتي وعيٌ لماضٍ كان أجدادي
إذا مرُّوا على صخـرٍ تنـامى النَّبْتُ
في الصخرِ
لهم قلبٌ كهذي الأَرضِ، يُعطي
دونما مَنٍّ .. ويَغنَى كُلَّما أعطى
على يُسرٍ
على عُسرِ
أَشُمُّ تُرابهـا، عرقاً تطيَّب من عبير
الأُم،
معقوداً ندى سحَرٍ
على الزَهَرِ
وذاك الرمزُ في أرضي أَضَنُّ به
عبيراً
مِلءَ شمِّ الأَنف
مِلءَ العين ..
أَنشَقُه فتبقى الأُمُّ
طِيباً بين أنفاسي
ورُوحَ العطرِ في العطرِ
وذكرى الحُبِّ في الشجَرِ
وخيرَ الناسِ
في الناسِ





الشوكة المزهرة(6)



بين الصخور
رأيتُها تنمو، وتخترِقُ التُرابْ
مدروزةً بالشوك، كالإِبَرِ المدبَّبةِ
الرؤوسِ، أو الحراب ..
فقصفْتُها مَسْحَ التُراب
ومضى الزمانُ أَقلّهُ
فنمَت كما كانت ..
وعُدتُ كما بدأتُ بها .. أُقصّفُها
وأمعَسُها بأَقدامي .. وأُوسِعُها شتائِم !
ما عسى تُجدي الشتائِم !
واستمرَّت ..
وأصرَّتْ
أنهـا تحيا كما تحيا
لتخنُقَ لي أزاهيري ..
تعالَت فوقها كِبْراً
كأَنَّ لكِبرها ثأراً على هذي
الأَزاهِرْ !
أتُرى !
لها مِن شوكها درعٌ فلا تُؤذَى !
وتُؤذِي غيرَها الأَعزل ؟ !
لها من طُولها طَوْلٌ
فتستَعلي .. ولا تُرذَلْ ؟!
يُغطِّي شوكَها زَهرٌ أنيقُ اللونِ
والمنظَرْ
ولا  يَلبثُ  أن  يَذبُلْ
وتبدو  في  قَباحتها
ولونُ جمالها ينصَلْ
لأنّ جمالَها مظهَرْ
و تعرى
مِثلَما يعرَى مُراءٍ خلْفَ بسمتِه
زُعافٌ قاتِلٌ أحمر !
أتَفنى هذه الأحياءُ
من جناتِيَ الخضرا
فلا تخنُق أزهاري
ولا تُزعجُ أشجاري
فهل تبقى مجذَّرةً بأَرضي ؟
أو بأَرضِ الناس !
لا يُجدي تقصُّفُها ..
كما لا ينفعُ الغفرانُ في لصٍّ
إِذا كفِّرْ ..
وذاتَ ضحىً
سللت المِنجلَ المسنونَ، والمِعوَل .
وغُصتُ به إلى أعماق مَنبِتِها ..
إِلى الأَصلِ المشرَّش في التراب
التِبْرِ
مُقتلِعاً جُذورَ القُبحِ من فردوس
أطفالي
فيهنا لي الجمالُ البكرُ
بين صخوريَ المرمَرْ
إِذا شجَّرَ .. أو أزهر ..





العرزال(7)



عادَ النماءُ إِليها
بعدَما ذبُلَتْ
وبعدما هَجرتْها كف أكاَّرِ
فالوُرْقُ فوقَ غصونٍ غضَّ أخضرُها
باتت تُصفِّقُ ترحيباً بزُوَّارِ
مُنداحةً في إطارٍ صُبَّ في نَسَقٍ
كأنمـا ابتدعتْه كفُّ حَفَّـارِ
فينانةً..
فوق فرعٍ مدَّ راحتَه ..
يذهِّب النومُ أحلامي
وأفكاري
أناملُ الشمس إِصباحاً تدغدِغُها
وفي دُجى الليل ترعى بدرَه الساري
يضمُّني قلبُهـا الخفَّاقُ مبترِداً
حتى لأَحسَبُ « صنِّيناً » غدا جارى
وتحت أفيائها في كلِّ ناحيةٍ
مقاعِدٌ رُصِفَت من بعضِ أحجارِ
أرتاح من تعبي، فيهـا، فيُؤنسُني
وفاؤها .. آمِناً من غدرِ غدَّارِ ؟!
بالأمس .. بالأمس
عهدَ الزرعِ، كنت إِلى أغصانها أَلتجي
من زخِّ أمطارِ
وفي الحَصادِ وقتْني حَرَّ موسِمِه
من يذكُرِ الفَضلَ
لا يَخجَلْ بإقرارِ
واليومَ ..
لو لم تكُن، كالأمسِ، باسقةً
ما جِئت أبني
بهذا المرتقى
داري ..





غربـاء



تناثرَ العمر أعواماً
جَهِدت بها معلماً ..
ما ونى يوماً وما تعِبا
كأَنمـا هو مشدودٌ لِطيَّتِه
شَدَّ المغني إِلى أوتاره طرِبا
ربَّيتُ جيلاً ..
فهزَّتني بُوادِرُه
وسرَّني أنَّ لي في وَعْيه سبَبا
فأَفسدته سياسـاتٌ مُكاذبةٌ
وشوَّهت عنده الأخلاقَ والأدبا !
من ذكـرياتيَ ما تُدمي مرارتُه
وليسَ أطيبَها الشيءُ الذي عذُبا
ذابت شموعي
وما ضاءَ الظلامُ بها
إلا بما شاءَه  » أربابُه  » أَرَبَا
أبلَيت عُمري نضيراً
دونما ثمرٍ، هل يُثمرُ الغُصنُ ؟
ويلي ! قد غدا حطَبا !
وُلِدتُ عهدَ أفاقَ العُربُ مِن وَسَنٍ(8)
ويوم كانوا شتاتاً في الورى نَهبَا !
خاضوا الملاحِم ثوَّاراً
وما برِحوا يقاومون لأَرض العُربِ
مغتصِبا
لبنانُ
بعضُ ذِراعٍ من مِسـاحتهم
وشعبُه خيرُ من يُنمى لهم نسبا
أحببتُه عربيّـاً في هُوِيَّتِه
كما أُحِبُّ جِهاراً قوميَ العَرَبا
يا خائفينَ على لبنانَ في غدِه
تلك المخاوفُ تعني أنكم غُرَبا..!
فما تخافونَ من لبنانَ عِلَّتهُ !
بل أَن يصِحَّ فلا يبقى لكم سَلَبَا
من طُول ما سكَّ سمعي بُطلُ دعوتِكم
وَدِدت لو أنَّ أُذْني حُشِّيَتْ
خَشَبا ..
تلك المسيحية « الحمراءُ » ..
نرفضُها، رفض المسيح
لمن أَثرى .. ومن نَهَبَا
هو الفِداءُ لمن ضِيموا ..
ومَن حُرِموا
لو لم يكن أُممِيَّ الروح ما صُلِبَا
وذي المجازِرُ أَحقادٌ
يفجِّرها
من لا يَرَون بغير الحقدِ مكتَسَبا ..
شَهدتُ ما فعَل الطُّغيانُ
في وطني .. فكيف تطلُب ألاِّ التظي
غضبا؟!
إِلهُهم وَثَنُ المالِ الذي عبدوا
وباسمه شرَّعوا الأَنسابَ والرُتَبا
وللشعوب إلهٌ ليس يَعرِفُه
من يزرعُ الفقرَ والتشريدَ
والوصَبا
وحشُ « الحضارة » بين الناس مُنفَلِتٌ
يُحيلُ كلَّ بناءٍ دونَه خرِبَا
كأَنه التَّرَفُ المسلوبُ من تَرفٍ
يُثيرُ في البائسين النارَ واللهَبَا !
نحن النِّعاجَ مسيحيين، خضَّبنا
« ذِئبُ » المحبة، بالدمِّ الذي شَرِبا
من ها هنا ..
من تُرابٍ نَبتُه قِيَمٌ
أصيلةٌ، واكب التاريخَ .. واصطحبا
حَسِبتُه وطنَ الإِنسان ملتزِمـاً
فلِم تخلَّى عن الإِنسان وانسحَبا ؟!
كـرِهتُه من خلال العابثينَ به
وما كرهت سواهم .. ساسةً
« نُجُبَا » !
صالوا .. وجالوا ائتماراً
وانتهَوا وطناً ..
توارثُوه أخاً
إبناً لهم .. وأبا ..
سأَلت رَبِّيَ : هل هذي مشيئتُه
في ما يرى من مآسي خلقِهِ ..؟ فأَبَى ..
ماذا ؟
وماذا ؟
وقتلانا هنا .. وهنا
قنصاً وذبحاً وما ندري لذا سببا !
بلى!
دماءُ ضحايانا لهم ثَمَنٌ
للحائزين على من دونَهم غَلَبَا..





الصليب المظلوم



لي غيرُ ما لكَ من مآثِرْ
يا من على العُدوان قادِرْ
لي غيرُ ما للحانِقين الظامِئين
الى المجازرْ
لي نصفُ قرنٍ من جِهادٍ
لانتصارِ الـحقِّ زاخرْ
* * *
خَدعُوك يومَ دَعَوك تحمِل
بين كفَّيك المقابِر ..
مزروعةً بــين المنازِلِ
والمدائِنِ .. والعمائِر ..
فتَزوبعَتْ في الأَرض ثاراتٌ
لمبتزٍّ .. وفاجِر ..
زُمرٌ مجنَّدةٌ تُذبِّحُ
لا تُنَهنِهُها ضَمـائرْ
* * *
عبَث اللصوصُ بمنزلي ليلاً،
وكنت لذاك صابر
وتسلَّلُوا فِرَقــاً مقنَّعَةً
تغامِرُ .. أو تُقامِرْ
فسأَلتُ : ما شأنُ الصليبِ
بصدرِ  » ثائرةٍ  » .. و » ثائرْ  » ؟!
قالوا : ليُسلبَ باسمه
رِزقُ القريبِ بـكفِّ غادِر
فعجبت كيف تدورُ بالقِيمِ المقدَّسةِ
الدَّوائرْ !!
* * *
الله عندي فوقَ ما عند الأُلى
حَمَلوا مباخِرْ ..!
فالدينُ إِنسانيـةٌ غنَّاءُ
لا حانوتُ تاجِرْ
لهفي على وطـنٍ يضيعُ
ضياعَ مجنونٍ مُغــامِر
لهفي عليـه يُستباحُ
وتَستبِدُّ بـه المخاطِرْ
لهفـي عليه، تقطَّعَتْ
ما بين أهلِيه الأَواصرْ
• • •
ربِّي !! سأَلتُك رحمـةً
لذوي المعـاسِر والمعاثِرْ
ربِّي ! سأَلتُكْ .. لا تـكونُ
لقاتِل الإِنسانِ غافِرْ !





المصير المجهول



سنةٌ مضت، سوداء
لولا أنَّ لي، في البيضِ من
أيامِها تَذكارا
عبَث السِّوى بسكينتي
فتخِذتُ لي من ذلك الدير الممرَّدِ
دارا(9)
أخشى الصدى، وأخاف
من همس الخُطى
لا أستكينُ، ولا أَقِرُّ قرارا
ألغيت عقلي إذ وجدتُ معاشِري
لا عقلَ عندهُمُ .. ولا أفكارا
وإِذا طُلِبتُ لهاتفٍ من هاتفٍ
أنكرتُ نفسي واتَّقيتُ عِثارا
شبحُ القتيلِ، مجرَّراً، في خاطري
ويُثيرُ من فوقِ الدروبِ غُبارا(10)
ففزعتُ أن أغدو ذبيحَ غرائزٍ
ثارتْ على دَخَل لتطلُبَ ثارا
وقبعْتُ مجهولَ المصير تَقِيَّةً
أستنشىءُ الأَحداث والأَخبارا
ويزورني الجارُ الصديق(11) ولم أرَ
مِثْلاً لهذا الجارِ ينصرُ جارا..
قسماً بذي الخُلُقِ الوفيِّ
فإنه باقٍ، ولو غدرَ الزمانُ وجارا ..
جهِلوا عليَ، وكان ذاك جهالةً
فهُمُ بأَغلاثِ الظنونِ سُكارى
قالوا : انتهى نَفَساً فمزَّق جسمَهُ
« وحشُ  » المدينة، واختفى آثارا !
ورأيت من أَعفوا اللحى وتستَّروا
بالدين تُجَّاراً بـه . . كُفَّارا
وحشُ الفلا يرعى تقاليد الوغى
والناسُ وحشُهُمُ استباحَ ذِمارا
وغدا الغريبُ مع القريبِ
مسلَّطاً يحتلُّ أمكنةً
وينسِف دارا
سنة مضت ..
وأنا الغريبُ عن الحمى
حتى القريبُ عن المكانِ
توارى !
في عزلةٍ خرساءَ
لفَّ نهارَها ليلٌ
وما كان النهارُ نهارا
وطني الذبيحُ على امتداد
شهوره العشرين ؛ ضاع هدىً
وضلَّ مسارا !
شهداؤه .. والأبرياءُ .. نفوسُهم
تقتصُّ ممن خلَّفـوه دَمـارا
والساسةُ  » المتمورِنونَ  » هُوِيَّةً
كانوا بما ائتمروا به أشرارا !(12)
أين الأُلى وعظوا الأَنامَ ؟!
ألم يكن وعظُ الشفاهِ
مفرَّغاً ثرثارا ؟ !
سنةٌ مضت ..
والسارقون هُمُ هُمُ
متآزرين أكابراً و صِغارا
بيروت ..
جوهرةُ المدائن أصبحت خِرَباً
تئنُّ صِناعة وتِجارا
والناهبونَ بنو الحضارة
دنَّسوا ثوبَ الحضارةِ
وارتدَوه شِعارا !
لبنان ..
في الأَمسِ القريبِ
له غدٌ يُبنى على نِقْضِ الجدارِ
جدارا
أعني غداً يُضفي السلامَ
على الورى نوراً
وتنطفىءُ المدافعُ نَارا





إخوتي الطيبون



يا إخوتي ..
إِني الصديقُ لكم، وإن شطَّ المزارُ
يا طيّبون . .
لأَنـتُمُ مِثلي نبا بكمُ الِجوارُ
لا ..
ليس يقطع وصلَنا  » دينٌ  » ؟ !
ولا فِتَنٌ تُثارُ
دِيني هو الإِنسان . .
يُكـرَمُ . . أو يُجـارُ
عارٌ على الخُلُقِ النبيلِ
يَشينُه حِقدٌ وثارُ
عارٌ علينا
أن يُشرِّدَنا التآمُرُ والصَغارُ
ما ضاع مقياسُ الصداقةِ بيننا
فالجارُ جارُ ..
ما زال يجمعُنا ..
ويُحكم نسجَنا وطنٌ ودارُ
يا حبَّذا تلك المجالسُ
والأَمانيُّ الكبارُ
كم زقزقت فيها الشِفاهُ
كأَنَّها أبداً شِعارُ
يا طيِّبون .. أُحبُّكم ..
ويضمُّنا وطنٌ
ودارُ





ضحية



لا..
ليس تُغريني الإِقامـة في ربوع
« المنعمِيَّه « 
أَمَّلْتُ أن أقضي بها أجلي، لآخرةٍ
هَنِيَّه
سمَّيتُها باسمي لتبقى أبدَ الدهرِ
سَميَّه
عانيتُ ما كلَّت عن استيعابه النفس
الأَبِيَّه
عامينِ ما عملت يدٌ بأَشدَّ من يدِيَ
الفتيَّه
فتحولت أرضُ البوار إِلى جنائنَ
بابليَّه
كم من مخارِمَ في الصخور، نقبت تربتَها
الزكيَّه
وغرستُ، ما وسِعَ النشاطُ، ورودَ رائحةٍ
زكيَّه
غادرتُها وتركتُ ما تركوا ..
وكنت كحظِّيَ الكابي
ضحيَّه
لتصير سُكـنى التائقين إِلى مناخاتٍ
نقيَّه
أمَّلت، في وطني، أرى للناس روحاً
آدميَّه
فوجدت أنكَرَ ما يكون : غرائزَ الوحشِ
الدَّمِيَّه(13)

سيعود للوطن الأمانُ، وعيشةُ النفسِ
الرَّضيَّه
ويذوبُ ذيَّاك الجليدُ كما تذوبُ
العُنصريَّه
وتزول هاتيك الفروقُ كما تزولُ
الطـائفيَّه
يأْبى المواطنُ أن يكون وجودُه فيه
قضيَّه
يا حبذا لو أنَّ لي كالأمسِ بعضَ
الأَريحيَّه
لعَدوتُ كالأملِ الشرودِ إِلى رحـابِ
« المنعميَّه « 





قريتي



عايشتها طِفلاً وكـهلا
وهجرتُها أرضاً وأهـلا
وتركتُ بين ربوعِـها
في كُلِّ زاويةٍ محـلاَّ
فهنـا طحنْتُ صخورَها
وجعلْت صعبَ الدربِ سهلا
وهنـا دَمَلْتُ ترابها
وزرعتُهُ جَلاًّ فجـلاَّ
ونشَلْت من آبارهـا
بالدلوِ ماءَ الشُرب نَشْلا
وشربت من نُقَرِ الصخور
مياهَهـا عَلَلاً ونَهْلا
وهناك .. فوق مشارف الوادي
تخيَّرْتُ المُطَـلاَّ ..
كم ظُلَّةٍ فيها انكـفأتُ
لأَتَّـقي حرّاً وطَـلاَّ
كم توتةٍ كَان المَقيلُ بفَيئها
أشهى وأحلى !
عبثَ القضاءُ بغابهـا
فاغتالهــا ثمراً وظِلاَّ
والكرمة النَّدياءُ تنمو
مثلَنا فرعاً وأصلا
ويَدُ الصبِّي تَجسُّ قبل النُضجِ
عنقوداً تدلَّى ..
كم ساهرت عيني الكتابَ
أُعيدُ ما الأُستاذُ أملى
كم من مسائلَ في الحسابِ
تعقّدت لم تلقَ حلاَّ
وبكَيت أرتقبُ القضيبَ
يَلفُّني كفّاً ورِجلا
نُمسي ونُصبحُ في قداسةِ مُتَّقِينَ
إِلى المُصـلَّى ..
وبراءَةُ الأَطفال في طِفلٍ
أدَلَّ .. وما أَمـلاَّ
كانت له لُعَبٌ إِذا مَلَّ الوقـارَ بها
تسلَّى
ذِكرى الطفولةِ بعضُ آهاتي
رُؤىً لن تضمَحِلاَّ
* * *
عِشت الحياةَ .. وما زَها عمري بها
طِفلاً وكهلا
ما همَّني منها سوى أن لا أُسَبَّ
ولا أُذَلا
ونهجتُ نهج المُرسَلين أُمارِسُ
العملَ الأجلاَّ
متأَثِّراً أهل المكارم
ناشداً حقاً وعدلا
خالَلتُ كُلَّ الناس لكن
لم أجِدْ في الناسِ خُلاَّ
والأَهلُ أهلُكَ، ما سلِمْتَ،
فإِن نُكبتَ .. فلست أهلا !
* * *
باغَتْ أُناسٌ كالبهائم
أفحشَتْ قلباً وعقلا
قِيَمُ الضمير على رؤوس نعالها
نعلاً .. فنعلا ..
ما لا يجوزُ، يجوزُ إِرهاباً ..
تَسيَّبَ .. فاستُحِلاَّ
وحضارة  » الوطن الفريد  » !
تهافَتَتْ جُزءاً وكُلاّ
أحببت هاتيك الربوعَ
وحُبُّها عني تولَّى
وجمالُها، لما تقابَح ناسُها
أجلى .. وفَلاَّ ..
وطني الكبيرُ يُرادُ أن يغدو
صغيراً مُستَغَلا
وأُريدُهُ وطناً كبيرَ الذاتِ
حُراً مُستَقِلاَّ





عيد.. ومأتم..



أنتَ في مأتمٍ
ولستَ بِعيدِ
إِن عيدَ الأَحرارِ غيرُ بعيدِ
مأْتمُ اليُتمِ والتشرُّدِ والتهجيرِ
في موطِنٍ ذبيحٍ شهيد
مأْتمُ الأَبرياءِ
غالَهُم الِحقدُ بوحشيَّة الجهولِ
الحَقودِ
أَيُّ عيدٍ لنا، ونحن نعاني
ما يعانيه كُلُّ حُرٍّ شريدِ ؟!
أَتُصلِّي؟!
وفي ضميرك إثمٌ ! !
تمتماتٌ على شِفاهٍ سُودِ
أَتُصلِّي !!
وفي حناياك صوتٌ ؟
لعَجوزٍ .. وصرخةٌ لوليدِ !!
أَتُصلِّي !!
وأنت خاطفُ روحٍ؟
لـبريءٍ على الطريـقِ
طريدِ ؟!
أنت ؟
من أنت ؟ قُم لربِّك .. صلِّ
كصلوة المنافقِ .. العِربيدِ
كافرٌ أنت بالإِلاهِ ..
تعالى الله ربِّي عن  » ربِّك « 
المعبودِ
أنتَ حُرٌّ ؟!
فلم تقاتِل كحُرٍّ ..
يَتخطى ممارساتِ العبيدِ ..
* * *
أنحني للذي يموتُ شهيداً
وفمي لاثِمٌ ترابَ الشهيدِ





وطن



وَطَنٌ ..
ميزة الحضارة فيه
أن يكون الإِنسانُ
لُبَّ كيانِهْ
فشمـيمُ العبـيرِ
في شـجَرِ الوردِ
زهورٌ تنمو على عيدانِه
أين هذا الثرى المُعنبَرُ بالطهرِ
وفوحُ الورود
في نَيسانِهْ
أين إيمانه المشعشِعُ
في الكون جمالاً
ينهلُّ من إيمانهْ
أين آكامُه ؟
براءَةَ قُدسٍ
في أزاهيره، وفي أُقحوانِهْ
أين هذا ؟ وذاك ؟
من نَتَن الموت
على سَفحه، وفي وُديانِهْ
عاش أهلي ..
وعاشَ أَهلُك إِخواناً
وصفوُ الزمان في إخوانهْ
كن كما شئت ..
ليسَ لبنانُ غاباً
ليكون الإِنسانُ من ذؤبانِهْ
فحرامٌ
أن يخرسَ الطيرُ في الأَيكِ
لصوتِ النعيبِ
من غِربانِه
وحرامٌ
على الذُّرى الخُضرِ فيه
تترامى
هباءَةً من دخانِه !
كن كما شئتَ
لستَ منهُ .. ومنِّي
إِن نفيتَ الأخلاق
من عنفوانِه
وطنٌ واحدٌ ..
حكايةُ حُبٍّ
وحيُ إِنجيله ..
نُهي قرآنِه
أنت أَدنى هُوِيَّةً
في  » أَبي ذَرٍّ  » لكُنه الإِسلام
من  » مَروانِه « 
أَنت أَنقى هُوِيَّةً
من مسيحيٍّ ..
يموتُ المسيحُ في وجدا نِـه
وُيصلِّي ..
مثرثِراً .. يدَّعي التقوى
وتقواهُ هَفوةٌ من لسانِه ..!
شئتَ أولم تَشـأ
أخي كل إِنسـانٍ، مدى الكون
لا تسلْ عن مكانِهْ ..
وطنُ العلم ؟ و  » الحضارة  » فيه
سَرِقاتٌ موسومة بامتهـانِهْ
حَلّلوها لهم  » غنائم حرب  » ؟
من هُمُ ؟! الكافرون من « كُهانه » !!
أَفيبقى لبنان ؟!
باقٍ على الدهرِ
بقاءَ الأَخيارِ من شُبَانِه
دْعكَ من أرضِهِ
منابعَ رزقٍ في شماريخه
وفي شُطـآنِه
دَعْهُ  » أُعجوبةَ الجمالِ  » !
سماءً، ومياهاً
تنسابُ في قيعانِه
والتمِس أمنه ..
فأَمنُ بنيهِ
يُرتجى في الجديد من بُنيانِهْ ..





شُعلة(14)



شعلةٌ..كانت ضياءً يوم كَانا
أيقظ الكونَ عليها .. والزمانا
عملاً كانت ..
وكانت فِكرةً
أغنتِ الدنيا يـداً
عقــلا
لسانا
والحضاراتُ استَوتْ في يدِهِ
مِهرجاناً
يتلقَّى مِهرجانا
شُعلةٌ.!
كم وَدَّ لو يُطفِئُها
جاهلٌ !!
أضحى هَباءً ودخانا
سائِلِ العلياءَ
كم عزَّتْ بـه
يوم عزَّت وأُهِينَتْ
يومَ هانا
واسأَلِ التاريخَ عن صانِعِه
عُنفواناً
يتمادى عُنفُوانا
أزعجوا العالمَ
أنَّا أُمَّةٌ !
رادت الحرفَ يراعاً وحُساما !
كَذَبوا ..
إِنَّ الأُلى نعرِفُهم
قادةً .. ما عشقوا إِلا الظَّلاما
سفحُوا النورَ
على شهوتهم واطمأَنُّوا
مُستبيحينَ دِمانا
و « الصعاليك » اليتامى شُرَّد
يلعقونَ الذُلَّ :
ماءً وطعامَا
لا تظنُّوا ..
انتحر الحقُّ على شهوة الحاكمِ
فالحقُّ صِراعُ ..
لم يكن يوما هِباتٍ
تُرتجَى .. سِلعةً تُعطى
وتُشرى وتُباعُ ..





عيد !!



لا عيدَ يأسوني ..
ولا أفراحُ
وبأَصغَريَّ دمامِلٌ وجراحُ
عيدٌ سعيدٌ ؟!
ذاك صنوُ خُرافةٍ
لا أستكينُ لها ..
ولا أرتاحُ
يتكاذبُونَ ..
وهم على أوثانِهم
متكالبون ..
كأَنَّهم أشباحُ
وهُمُ هُمُ
مكراً، وخُبثَ سرائرٍ
ومحارماً للأقوياءِ تُباحُ
وتديُّناً
حاك النِّفاقُ نسيجَه
يتمهْرَجُونَ به ..
فقِيلَ : صَلاحُ !؟
* * *
لما يَحِنْ عيدي ..
ويبلُجَ فجرُه
ويُضيءَ للمتأَلمِّين
صباحُ !
لي مُثلياتٌ في الحياة أثيرةٌ
تهنا بنو الدنيا بها
وتُراحُ
فيكونُ عيدي
عيدَ كلِّ مُكافىءٍ
وبكلِّ أرضٍ غبطةٌ
ومِراحُ




دنياي



دنياي
ما لكِ لا تطيبي !
نازعتِني بطباعِ ذِيبِ
غاض الحياءُ وهَمَّ بي قَتْلٌ
يُباحُ على الدروبِ !
دنياي !
مأساةُ الشريفِ
وجَنةُ الغِرِّ الكذوبِ !
دنياي !
غِيل بك البريءُ
وماد مرتكِبُ الذنوبِ !
وبنو الأَوادم حظُّهم كالطير
يُقنَصُ عن قضيبِ !
زُمَرٌ تَئِزُّ دماً ..
وتولَغُ في امتصاصِ دمٍ
صبيبِ
وجنادِبٌ ذاتُ النيوبِ
تُطلُّ من خللِ الثقوبِ
أَشباهُ سائمةٍ
تسيرُ على اثنتينِ
بلا رقيبِ ..
أنضاءُ جائحةٍ من الحقدِ الملظَّى
في القلوبِ ..
ماذا رأيتُ ؟!
جماجماً فرغَتْ
من العقـل اللبيبِ
وهياكلاً تمشى ..
تُجلجِلُ تحتَ منسوجٍ قشيبِ
فَهناك ..
من مَثَلوا بهِ حيّاً
وجُرَّ على الدروبِ
وتَشوَّهَ الجسدُ الوسيمُ
بألفِ أُسلوبٍ عجيبَ !
وذواتُ خدرٍ للخنا
ينتاشُها زُرقُ النيوبِ
وروائحُ الدمِ
في السفوحِ تعُبُّ رائحةَ
الطيوبِ
وحُشاشةُ الشعب الذبيحِ
يَسُلهُّا وَرَمُ الجيوبِ
يا هولَ ما سِيمَ المعذَّبُ
فوق مشرحـة الطبيبِ
* * *
والدينُ !
يا للدينِ !! إِمتاعٌ برزقِ أَخٍ سليبِ
والجار منقوض الذِّمام
ككلِّ منبوذٍ غريبِ
وأمام شوهاءِ النفوسِ
تقزَّزت نفسُ الأديبِ
حملوا الصليبَ ..
وذبَّحـوا من ذبَّحوا باسم الصليبِ !
ما أَشبهَ الأَمسَ البعيدَ
بخِسَّةِ الأَمسِ القريبِ !
. . .
دنيايَ !
ما لك لا تطيبي
نازعتِني بطباعِ ذِيبِ
دنيايَ !
مأساةُ الشريف
وجَنَّةُ الغِرِّ الكذوبِ





هَمٌّ



سَلْ ما بدا
يا طيرُ أن تسأَلَهْ
فإنَّ بي شوقاً إِلى المسألَه ..
أراك حولي تارةً
ساكناً
وتارةً تسرحُ
في هَرْولَه
تحُطُّ من غصنٍ إِلى جدولٍ
فأَنتَ طيرٌ
عاشِقٌ جدوَلَهْ
هَفْهافةٌ نفسُك
لكنَّما نفسي
بما تحمِلُهُ مُثقَلَهْ
تنوءُ بالهمِّ
على موطنٍ
لا تملِكُ الأَطيارُ
أَنْ تحمِلَهْ
على غدٍ ..
أَحيا لأَعراسِه !
فمن جنون النفس
أن تجهلَهْ
غدُ الجمالِ البكر
في جنَّةٍ(15)
مرسومةٌ صورتُه ماثِلهْ
وكُلُّ ما في الزهرِ
من فاتنٍ لناظري
أُلفِيهِ مِنهُ .. ولَهْ
يا طائري ! ..
لولا نَجاوى المنى
وما على العاشق أن يأْمَلَهْ
لما لثمتُ الزهرَ مُستبثراَ
لأكتفي بالقولِ : ما أجملَهْ ! !





قلمي



يا زهرةً في أُنمُلي
تفوحُ فوحَ الأَمَلِ
وخمرةً في دالِيَهْ
وثورةً في قـافِيَهْ
وحُجَّةَ الحقِّ
على الطاغِيَهْ
أيعبثُ  » كسرى » بهذا الشُوَيءِ
ويضطرمُ الجهـلُ في الحاشِيَهْ
وفُلَّت سيوفٌ
وثُلَّت عُروشْ !
وهارت قصورٌ على الزاوِيَهْ ! !
فيك تُزهرُ المُنى
وتَخضـوضِلُ العافِيَهْ
تُروي دِماك العُلى
فتخضوضِرُ الذُّرى
بالجَنى
ويشُرِقُ الغدُ
ويرقُصُ اللحنُ
في الساقِيهْ
شُلَّتْ عليك اليدُ ..
الجانِيَهْ
سَلِمْتَ فمَ الشاكي
وبَوحَ الهوى
وَوَمْضَةً في الأَعين الغافِيَهْ
ودُرَّةً من قيمٍ غاليه
وللوطنِ المرتجى
وللدولةِ الثانيهْ
أُمثولةً خالِدةً
باقِيهْ





لا. لا. لا
 
لا.
لا.
كلماتٌ تتكرَّرْ
تتحدَّى
ترفُضُ .. لا أكثر ..
لا.
لا.
في البيتِ وفي المعبدْ
لا.
لا .                في الشــارِعِ   والمعهَـدْ
تتحدَّ ى .. ترفضُ
لا أكثر
لا..
لا .. إِرهاصٌ يتفجَّـرُ
بالثورة في غدِها الابعد
أبصرْتَ بيمٍّ يضطرِبُ !
وبموجٍ عاتٍ يصطخبُ
فتوقَّعْ .. فالدنيا عجب ..
لا..
لا موجاتٌ تَتَعالَى ..
تتحدَّى ترفُضُ .. بل أكثر ..







تعليقات، ملاحظات وهوامش
 
(1) ليس المشهدُ خيالاً بل حقيقة .
(2)من شعر التهادي بني وبين صديقي الشاعر المرحوم اسكندر شلق من « راس نحاش  » وكنت اذاك سنة 1943 في دمشق، فأهدى مثلها وزناً وقافية، ونشرتهما جريدة « الف باء » تحت عنوان:  » بين شاعرين : مسيحي ومُسلم  » . وستأتي قصيدة شلق في منازلها من  » أوراق لهـا تاريخ  » وللشاعر شلق شعر كثير عبث به الزحف الجنكيزخاني الى راس نحاش في 6 تموز سنة  1976  وما بقي منه بـين اوراقي بعض هذا الكثير ..
(3) على وجه التخصيص  لا التعميم
(4)  موت الشقيقة ..
(5)  تسمية كنائية لنِبتة طيبة الرائحة تعرف عندنا بـ »القويسه » ذات أوراق مخملية ولون رمادي يتداوى بها المبطونون « sauge « 
(6) هي  » القندولة  » : شجرة شائكـة ذات زهرٍ موسمي أصفر تعرف قديماً بـ »الدار شيشغان « .
(7) خرُّوبة باقية مع بعضٍ من أخواتها على ذلك الشرف من أرض  » المنعمية  » افترشت عبَّها ، فاحتضنتني صيفاً في أمانٍ واطمئنان الى ان مرَّ من هناك الهنود الحمر .. فرضيت من السلامة بالهرب. وبعت الدار تحت ضغط الحاجة .. وغيرالحاجة؟!! وليست الدار على كل حال بذات قرار .. في وطنٍ لا يرعى فيه بعضهم حرمة صديقٍ أو جار ..!
(8) في مستهلّ الحرب الأولى ، وفي فـترة ثورة العرب الأولى على الخلافة العثمانية.
(9) دير يسوع الملك بجوار نهر الكلب..
(10) انسان قُتل ، وطِيف بجثته في الشوارع على مشهد من ناس يصفقون ومسلحين يطلقون الرصاص . تجرّه سيارة  » جيب  » ربط بهـا حبل مشدود من رقبته . مرَّ الموكب أمام بيتي ، وقد بدا في وهم الناس ومرأى عيونهم أن القتيل  » صومالي  » وليس كذلك . إنـه انسان من عندنا .. من جوارنا. جاء في الرسل والأنبياءِ :  » تعذيب جثـة الميت خطيئة  » فكيف إِذا عذب حيّـاً وميتاً ؟! وجـاء في الحديث : « إِياكم والمثلة، ولو بالكلب العقور .. » فكيف اذاكان التمثيل بإنسان من أخيـه الإِنسان ؟!
(11) هو التلميذ الوفيّ والصديـق الاوفى الاستاذ جوزيف عون صاحب النشاطات الاجتماعة المبرورة، ومِثلُه عزيز . .
(12) على وجه التخصيص لا التعميم ..
(13) تخصيصاً لا تعميماً .
(14) المعلِّـم عام  1973 .
(15) غوطة دمشق.