| أ. طانيوس منعم أوراق .. لها تاريخ الثاني ©جميع الحقوق محفوظة© تمهيد الجزء الثاني من عشرين جزءاً من « أوراق لها تاريخ » كُتبت بتواريخها، وستُنشر، باستنسابٍ وتواتر، وهي في أبعادها مضيئة نيِّرة! * * * إنما الحياةُ الناس بعلاقاتهم، وسلوكهم، وعاداتهم، وأفكارهم، وأعمالهم.. وجمال الحياة وقبحها خيرُها وشرّ ها: هؤلاء الناس.. لعلك تتعرف الى القبح والجمال، الخير والشر، الرذيلة والفضيلة في ما تقرأ… ا.ط.م. الرَّجُل النموذج كان لي والد، عُرِف برجاحة عقله وعمق إدراكه للامور، مع كونه أُميَّا يَكاد لا يُجيد تصوير توقيعه. كما هو معروف أيضاً بأمانته، وصدقه وسلامة ضميره (1) . رَبَعُ القامة، مقتدر الطول، مشدود العضلات، مكَتَّل الرأس، على قزَعٍ فيه، عريض الجبهة، في تغضُّنٍ وصلع. شارباه بين الإحفاء والإعفاء، والكوسجة. جهيزٌ اذا مشى، حازمٌ إذا أراد. يمتازُ بروحٍ وثَّابة ملتهبة، وعشق للعمل، وإحساسٍ حادٍّ بكل ما يقتضيه العمل من أوجُه نشاط، لا يغضغض منه أُنملة. هو في قدْر مقدور بين بخل وكرم، فإنما يأتي البخل من جهة خوفٍ من فقر. يبذل ما يجب فيما يجب. عطوف، مُحب. لم يكن أنيق اللِّبسة في مرأى عيني، وكان أنيقها في مرحلة الشباب، فقد وُصِفَ ب « أَبو المشلح »، على ما روى الراوون، عندما كان يدبّ إِلى حيثُ يُحب!، إِلى فتاة احلامه التي أصبحت والدةً لي. كان في حالةٍ وسَط، بين بسطةٍ وضيق. فهو فلاح قَروي ممَّن أبقارهم ومحاريثهم وإِنتاج أرضهم أحدُ موارد يُسرهم، أَو أسباب عسرهم، كما تقضي السنواتُ العجاف، أو السنوات السمان، أَو كما هي ظروف الحكم والتحكُّم، من حيث مقادير الضرائب، أو من حيث ما للمنتجات الزراعية والحاجات المعيشية من أثمان..! هو بكر ستة أشقَاء، وشقيقة هي صغراهم. أحدهم توفِّي بداءٍ دماغي عضال، طالباً اكليريكياً في باريس، مرسلاً من قبل البطريرك الياس الحويك، بسعيٍ من الشقيق الأكبر.. (2) وكان، كما أَخبرني والدي، ورفيقُهُ في التلمذة أَديب بصبوص، شعلةَ ذكاء، ومثلَ تقىً ونباهة. وقد أهدى الى رفيقِه كتابَ صلاة، عليه توقيعُه، أَهداه إِليَّ ذلك الرفيق الوفيُّ يومَ كان ولدُه « مالك » واحداً من تلاميذي.. (3) المسؤول الأكبر بعد وفاة جدِّي لأبي، تولى الأخ الأكبر شئون البيت، فكان له مديراً، مدبِّراً، وللاشقاء أباً عطوفاً. تعاطفوا في العيش معاً، وتعاونوا في إِخاء، فما ضاقت ذات يدهم، لمثابرةٍ موصولة بنشاط عملي مبذول.. فكانوا إحدى عائلات قلائل لم يعضَّها ناب الجوع، ولم ينكبها الموت والتشرُّد. يعملون في الأرض استصلاحاً وزرعاً وغرساً. في المحاجر، والبناء، كتفاً إلى كتف وساعداً ملتفَّا بساعد. فشادوا ثلاثة بيوتٍ لهم، واشتغلوا بأجرَة، في تشييد كثيرٍ من بيوت القريةِ، وغيرِ القرية. أحبَّ أحدُهم فتاةً جميلة، أصرَّ على الزواج منها، فنهاه الأخ الأكبر المسئُول، لأنَّ زواجه، في نظره، غيرُ ذي أَوان، فتزوَّجها بدون إِرادته، وآثر الاغتراب إلى أَميركة الشمالية لاحقاً بمن هجر من أَبناء القرية. وانقطعت المراسله بينه وبينهم بعد ثلاث سنواتٍ من اغترابه، وقد أرسل لهم المبلغَ المدفوع له، أُجرةَ السفر..(4) تزوج أَبي من فتاة(5) عُرفت، كما أُثر عنها، بجمالٍ، وذوق وفهم، ومناقبَ حميدة. فنشطت مع زوجها وأَسلافها، وتعاملت وإِياهم معاملة إِنسانة غيور محبَّة، تذيب ذاتها خدمةً وتضحيةً، ولا سيما إذا كان زوجها وأَسلافها موضوع هذه التضحية. لكنها تُوفِّيَت نَفْسَاء، في أُطروان صباها، تاركةً طفلةً وطفلاً هو أَنا، وعمره آنذاك ثلاثُ سنوات، ومولده سنة 1914، في 20 نيسان. وفي السؤال عن ولادتي وعمري كانوا يقولون: وُلد « عبدو » إذ مات « بو قبلان » فبين غرغرة هذا ووَعوَعة ذاك، لحظةُ زمان. و « بو قبلان » جارُنا، وبيتنا حِذوَةُ بيته، بينهما عُرض الطريق. ليس في ذاكرتي صور واضحة عن شخص أُمِّي. غيرَ أن لها صورة واحدة، ما تزال ماثلة، كأنها هي الآن حاضرة. فقد قرَّبتني إليها ذات يوم لأتناول ما في صحنها الصغير المعربَس (6) من بقية عسَل، وهي مستلقية على فراشٍ ذي غطاءٍ مُسهَّم نسَجته جدَّتي على نولها، فوق حصيرة، على مقرُبَة من الموقِدة. لا أذكر، هل لبَّيت طلبها، أم لا؟! ثم غاب عني شخص أُمِّي إِلى الأبد كما غاب عني رسمها، وانتحرت على شفتيَّ كلمة « ماما ».. وبقي قبرُها في مدينة المقابر.. تُوفّي ساسين سمعان راشد سنة 1920، وبيتنا بجوار بيته. ولأوَّل مرة يقع نظري على ميتٍ مسجَّى، لأن آباءنا كانوا يحولون دون وصولنا إِلى بيت الميت اتقاءَ خوفنا من الموت. وبالحقيقة، كنت أَخاف الموت، ويستقر في واعيتي الحالمة، كابوساً ضاغطاً، كما كنت أَخشى المرور أمام المقابر ليلاً، وأَحث خطاي هلعاً، ورعباً، إِذا مررت. فقد دلَّتني جدتي(7) ذات مرَّة، وهي تصطحبني إِلى الكنيسة، على قبر أمِّي، وهو بين المقابر، في جدار ساحة الكنيسة. وطريق الكنيسة من بيتنا يمرُّ إِزاءَ هذه المقابر. وروت لي قصّة النور الذي انبعث من قبرها: (قبر أمّك بيضوِّي يا ستّي.. وأَنا شفتو.) وهذا، في اعتقادها (أُعجوبة)! لأنها تعرف فضائل كَنَّتها، وقد عايشتها، وانسجمت معها كالسمن والعسَل، فأصبحت عندها بمنزلة (ولِيَّة)! أو هكذا استوت في وهمها! وكنت كلما نظرت إلى قبر أُمّي المواجه لبيتنا لمح وهمي هذا النور..! إِعتراف جدتي بفضائل أُمِّي، هو اعتراف الحماة بفضائل الكَنَّة! فكيف هذا؟ وفي مأثور الأمثال: (أَشدّ من عداوة الحماة للكَنَّة). (بينها وبين كَنَّتها دقي واعصري). « قبّه وصليب ». (شمس شباط لكَنَّتي، وشمس آذار لبنيتي، وشمس نيسان إِلي ولشيبتي..)(8) فهل تعاطف أُمِّي وجدتي شذوذ على القاعدة؟! يبدو ذلك، بدليل إيمان جدتي ب »أُعجوبة » النور منبعثاً من قبر كَنَّتها. العداوة المألوفة تاريخية، لأنها مَثَل مأثور.. فما منشأ هذه العداوة، والأُم قبل أَن تصير حماةً، أقصى أُمنياتها السعيدة أن ترى لولدها زوجةً، وأَولاداً، والذكر افضل البنين.. فما بالها حماةً، تعكِّر سعادةَ ولدها وتنغِّصُ عيشَه. لسببٍ تافِه، او لتفاهةٍ تراها كارثة.. وإِنما الفرحةُ أَن يتزوج ولدها. وان يلدَ البنين، والتحية بالفرحة والتهنئة بها لا يخرجان عن هذا القصد: « بالرِّفاه والبنين » اي بالالتحام والاتفاق، وولادة البنين.. « فرحتو، فرحتك » كلمة تمنٍّ تقرع سمعَ الذكر قبل الأنثى منذ استهلاله..! ولماذا الذكر افضل الأنجال؟ في الذكر، فيما أرى، امتدادٌ للأب. والأُسرة أو العائلة المعصوبة بعصبيَّة الدم في عمود النسَب، وفي معنى الامتداد هذا انتقال الارث، أَرضاً ومواشي.. وحصرُه في مسلسَل هذا العمود معطىً من معطيات التركيب الاجتماعي للنظام الأَبوي، في إِطار المجتمع الزراعي التالي للنظام الامومي، وقد كانت السيادة فيه للمرأة الامّ. فانحسرت بانحسار قدرتها على الانتاج إلا إنتاج البنين، عبر اعتمالٍ تاريخي طويل.. وظلت بصمات ذلك النظام فينا أَثراً إِيديولوجياً باقياً ببقاء مُناخِه.. هذا للقول، في سياق هذا التحليل: إِن حرّية المرأة هي تحرُّرها من علاقة ارتزاقها بالرجل، وحرّية الرجل والمرأة هي تحرّرهما معاً من معيشةٍ تتوقف على غيرهما أو يملكها هذا الغير: « لا حرّية لانسان تتوقف معيشته على إنسانٍ آخر ».(9) * * * في إِطار ذلك النظام، يتزوج الولد، وعادةً ما يظلُّ مقيماً في البيت الوالدي، فتتساكن الحماة والكَنَّة معاً، على تباين شعور، وتنازع سيادة. الزوجة الوافدة يأخذها الشعور بالسيادة وحرّية التصرف، والحماة تساورها الخشية من فقدان السيادة وحرّية التصرُّف، فكيف تنازعها مثلُها هذا الحق. وفي هذا المناخ ينشأ التحاسد والتباغض وتصبح العداوة مثلاً سائراً، زمناً بعد زَمن.. ولا يغدُو المثلُ مُتحفيّاً، حتى يغدو المناخ الذي نشأ عنه مُتحفيّاً أيضاً. ونحن من ذلك على المشارف. وقد عايشت بعضاً من هذه المناقرات بين حماةٍ تساكن كنة، او كنة تساكن حماة، ولاحظت ان التعاطف والوفاق يكونان في استواء كلما كان السكن في تراخٍ. وفي الأمثال السائرة: « اقربوا تا سبّكم، ابعدوا تا حبّكم ». وقيل لابن شيبة: « ما بال فلانٍ يعاديك؟ » قال: « لانه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، ومُشاكِلي في صناعة.. » وفي الغالب: « القلَّة تورّت النقار ». وعبثاً ذهب وعظي في إِصلاح ذات البيِن، ما دمت لا أملك القدرة على إِلغاء السبب، مهما دمغَت حجتي، وتدفَّق فمي بكلمات: العيب، والمثُل العليا، والأخلاق الحميدة، والمكارم والفضائل، والتقوى.. وما أَذكر، وما لا أَذكر من حكم وأَمثال.. * * * عشنا شقيقاً وشقيقة(10) ، زمن الطفولة الأولى، في بيت جدي، قبل أن يتقاسم ابي واعمامي ما ورثوه وما امتلكوه من أَرزاق. وكانت جدّتي لأبي هي الأم البديلة، فتولَّت تربية الصغيرين كما كانت تتولَّى خدمة الكبار بكل ما تحلَّت به من حنان الأمومة واعتناء التربية. كان والدنا يسامرنا حتى ننام، ويُدلج إِلى مساهرةِ من ستكون له زوجةً بديلة… إِنه في حاجة إلى جزئهالأفضل، وقد غيَّب الموت ذلك الجزء الأفضل.ونحن لا نعرف شيئاً من غوامض تلك المساهرة، غيرَ ما نسمعه من ذوي الفضول، أَو ذوات الفضول، وهم في القرية كُثُر -ولله الحمد-! فتارة يصفون علاقة الخالة بأَبناء زوجها، وما فيها من قساوة المعاملة، ومرّة يعيبون على والدي أن يتزوج ثانية. ولا نعلم أحَسَدٌ هذا أَم ضغينة، أَم هو تخلٍّ عنا، أَم ظلمٌ لنا. وتارة نسمع اعتراض جدتي وأَعمامي من خلال مجادلاتٍ أَمامنا فيها بعض الغموض والتكتم. إِلى أَقاويلَ في أَعقاب أَقاويل. وفجأة رأَيتُني في البيت الذي تسكن فيه الزوجة الموعودة، وهو بيت صهرها زوج شقيقها، قاعداً، في حضنها تغسل رأسي وتمشط شعري، وتبدِّل ثيابي، وكان هذا من عمل جدتي. وفجأة ايضاً أَصبحنا في بيتٍ غير بيت جدتي وأعمامي. وكان الفصل صيفاً، وكنت أنا وشقيقتي ننام معاً في فراشٍ واحد، غطاؤنا لحافٌ واحد، وفي الخلاء على سطح ذلك القبو أَمام البيت الرابض في « الزحلوقة »(11) * * * في إِحدى الليالي، بقي أَبي يسامرنا، بعد العشاء، حتى أَغفينا. وأفقت ليلاً، أَو بعد منتصف الليل، لأستنجي مِنْ على السطح كعادتي، والليلة قمراء، فلمحت في فراش أبي ما دعاتي فضولي البريء إِلى إِيقاظه والسؤال: أبي! مَنْ معك؟ فنهرني بغضبٍ غاضب: « نَمْ وَلَهْ بلا حكي » ونمت خائفاً خجولاً.. لتنفتح عيناي في الصباح على الزوجة الرابَّة، والخالة العزيزة. لا أَذكر كم سنة قضينا في ذلك البيت قبل أن ننتقل إِلى بيتنا الآخر. وظلت جدتي – رحمها الله – تحدب علينا إلى جانب حدب الرابَّة، ونتردد بين يديها، ونقزع إِليها كلما عكَّرت أَعابيثُ الطفولة ماء َالوفاق بيننا وبين الخالة. أما اعمامي -رحهم الله- وأما أخوالي وخالاتي فقد كنا على صلةٍ بهم متراخية، بمعنى أن التعاطف الحميم لم يكن في دائرة الشعور، باستثناء بعضهم. ولا اعلم السبب: أَلِجَفاءٍ بينهم وبين الوالد؟ ولم يكن بحسب الظاهر من جفاء. لا بدَّ من وجود سببٍ ما، يخفى على فهم ذي عمرٍ كعمري. ولكن ما ذنبنا نحن؟ فإذا كان أبي هو السبب، أو هم، فهل يأكل الآباء الحصرم ويضرس الأبناء؟! ومع ذلك، كثيراً ما كنت ألجأُ إِليهم كلما شجر بيني وبين أبي خِلاف، أو مكابرة، وفي الأغلب الأعمّ كان هذا ما يحدث، لألف سبب وسبب.. هذا الشعور الذي ظلَّ بعض أثره يخالج نفسي هو إِحدى مناهي علاقتي المماثلة بأبناء أخواتي، قدرَ استطاعة الانتصار على الذات وعلى اعتمالات هذه الذات.. كيلا يضرس الأبناء إِذا أكل الحصرمَ آباؤهم..! * * * تركت الحربُ بصماتِها العميقة على كل شيء في القرية. هنا بيوت مهدومة خلت من ساكنيها، إما لِجوعٍ مميت وإِما لهجرة، وهناك أراضٍ بيعت من ذوي الثراء، أو من أثرباء الحرب بما يسدّ رمق أصحابها فقط. (الكدْنة (12) )برطلٍ من شعير، أَو بُرّ، أو بأُقَّة عدس. غيرَ أنَّ عائلةً لم تُبقِ منها كوارث الحرب إلا على امرأةٍ أيِّمٍ ثكلى، لجأَت الى بيت جدي، عاملةً بأجرةٍ أو بغير أُجرة.. لا أعلم.. وبقي لها البيت او أسهُمٌ منه،وبعضُ أرضٍ، إِرثاً من زوجها، فتزوج منها والدي، واتخذ بيتها له مسكناً بعد أن أجرى فيه ما أمكن من إِصلاحات ضرورية (13) . كان الزواج مخصاباً والزوجة مئناثاً، فولدت خمس إِناثٍ رأساً على رأس، وذكرين، في أعقابهن. ووالدي بحكم تربيته لا يُحَلِّل تنظيم النسل، إِنلم أَقل تحديد النسل. فهو في عرفه الديني والأخلاقي جريمة.. أَو خطيئة مميتة تزجُّ به في جهنَّم، أَو هكذا وعظه خوري الضيعة، وكثيراً ما سمعته يردِّد: « الله يخلق دودة في الصخر ويخلق لها معاشا ». والعيال، كما يقال، سوس المال. فقد ثقل ظهر أبي، وزاده ثقلاً طبيعةُ الحكم، وعلاقات المجتمع الاقتصادية. فكابد جُهده قياماً بأَوَد العائلة المتنامي باستمرار. يشتغل آناءَ الليل وأَطراف النهار، يذهب غلساً ويؤوب غسقاً. حركة دائمة. اهتمامات مترابية وهموم متراتبة، تأكل من لحمه، وتشرب من دمه. لم يكن تِبْعَ نساء، فلم تقده شهوته إِلى غير حلالها، ولم يتسامعْ أَحد بسوء سمعته، أَو نَدَد سلوكه. ونادراً ما سمعتُه يشتم ويسبُ بكلام فيه تسفلٌ وبذاءة، بوصفه لغة الانفعال والغضب، وافتقاد الحجَّةِ والمنطق، كَأنْ يسبَّ الأُم (بعورتها) وعِرضها، أَو الأخت.. أَو يسبُّ (الدين)، وهي مسبّاتٌ مألوفة كثيراً بين القَرويين والسُّوقة، وتعبِّر أَصدقَ ما تعبِّر، عن كوامن النفس، أَيعن الأصول النابتة في القلوب فتثمر في الفروع ثمارَ الأَلسنة.. فتأتي أَمثال الشعوب ومفرداتُ لغاتها شاهدةً على ما دار ويدور في ذهنها من معاني.. وتكون لغاتها هي تاريخ حضارتها وديوان أَخلاقها.. سمعت من أَبي مسبة « الديك »: « يحرق ديكك » عوض: « يحرق دينك » فيتحرَّز من ذكر كلمة « الدين »! ولكنه يعبِّر عن استهانته بأمرٍ يراه غيرُه صعباً ويراه هو سهلاً ميسوراً بأنَّ « أبو إِدريس » (14) قادرٌ على إِنجازه..ويلفظه باسمه المألوف لدى عامة الناس. غيرَ أَنَّ مثلاً تردد كثيراً على لسانه ولسان غيره، في بيئة القرية، في معرض الاعجاب والاستحسان أو في معرض الاستهجان والتقبيح: « يحرق مسّينو ما أَحلاه.. » ! أَو « يحرق مسّينو ما أَبشعو، أو ما أَكرمو، أَو ما أَكذبو.. »! تماماً كما اعتاد العرب أَن يقولوا: « لا أَبا لك »، « ويل أُمك »، « أَخزاه الله ما أَشعره! »، « لعنه الله ما أَجرأَه! » وهو مدح قِيل بلفظ الذم، كمايقولون للأحمق « ياعاقل » وللجاهل « يا عالم »، وهو ذمٌّ بلفظ المدح.. ويعلِّلون ذلك بخوفٍ على من يمدحونه من العين، فيعدلون عن مدحه إِلى ذمّه. أو أن الممدوح قد بلغ غاية الفضل فأصبح في حدِّ مَنْ يُذَمّ ويُسَبّ، لأن الفاضل يكثر حسادُه ومبغضوه والناقص لا يُلتفت إِليه. لذلك كانوا يرفعون أنفسهم عن مهاجاة الخسيس، ومجاوبة السفيه واللئيم..! « إِنَّ العرانين تلقاها محسَّدةً ولاترىللئامِ الناسِ حُسَّادا » لم أفهم معنى المثل الشائع، صغيراً. واستقام عندي معناه في قصيدة استظهرتها لشاعر النيل حافظ ابراهيم يصف فيها كارثة الزلازل التي نزلت بمدينه « مسّينا » (15) فأحرقتها، فإذا المثل يشير إِلى تلك الكارثة وقد كانت من الهَول بحيث انتشر واتسع حتى أصبج مثلاً شعبياً نتمثَّل به مدحاً أو ذما،ً استهجاناً أو استحساناً، على عادة العرب.. * * * في تلك الحقبة من الزمن كان الاهتمام بالذكر اكثر منه بالأنثى، أو هكذا بدا لي بحكم البيئة التي فيها نشأتُ. فللذكر حق التعلم، أو إِلغاء الأُميَّة على الأقل، ليصير إِما كاهناً، وإِما معلِّماً ويحوز ما يتأتَّى له من وظائف ومهن. وللأنثى ارتقاب فتى الأحلام لتكون آلة تفريخ، وإنسال.. وقُلٌّ هم الذين يحظون بأدنى مستوى من العلم ولو في مرحلته الابتدائية. وهَمُّ والدي الكهنوت.. لأسبابٍ منها ديني، ومنها اجتماعي. فالكاهن متبتلاً أو متزوجاً (مزراب دهب) كما سمعتهم يقولون. ونصيبه من الزواج إِذا أراد، اجملُ فتيات القرية، أو أرمقُهن منزلةً وجاهاً، وكذلك نصيب شيخ الصلح.. وهو إِلى هذا وذاك موضوع إِِجلال واحترام. له صدر البيت زائراً، ورأس المائدة ضيفاً مدعوّاً أو غير مدعوّ، وهو أوفر أهل القرية علماً بين أكثرية أُميّة أو نصف أمية.كلمته حجَّة لا تُناقش، ولا تُنقَض، إِما عجزاً وإِما احتراماً. بيته من بيوت القرية بين أعلمها طرازاً. فقلَّما تجد بيتاً مسنَّماً بالقرميد الأحمر والرفارف المقرمدة، لغير رجل معبد، أو لأَحد أقربائه الأَدنَين، أو لمهاجِرٍ، أو أقرباء مهاجر، أو لذوي الثراء الموروث.. فضلاً عن رفاهية عيش في ظل مِبخرة ثرَّة المنافع بأقل جهد مبذول. يدُه ممدودة للقبض، مبسوطة للتقبيل من الكبير والصغير. هو حديث الله إِلى الناس، وحديث الناس إلى الله. وقد حرص والدي أن أكون كاهناً بتولاً كهذا الذي وصفْت، وأن يكون همُّه تقنِيةَ اتجاهي إِلى جنَّة النعيم في الدارين.. فكان له ما أراد. ومما جعل همِّي ينصبُّ في هذه القناة دون سواها تلك المجاري التي تهيّأت لي في بيئة البيت. فقد كان يختلف إِلى بيتنا كاهن الرعية لما بينه وبين والدي وأعمامي من صلة مودَّة. هو من العَمَلة النشيطين في حقلَي الدين والدنيا، يكدح بيديه فلاحاً زارعاً من الفجر إلى النجر، ويكدح بوظيفته رجل معبد. ما رأيته قط متوانياً في تأدية صلوة، ولو في أشدِّ الليالي مطراً وثلوجاً وعواصف، فضلاً عن أَريحيَّة، وغيريَّة في كل مجال وفي كل ظرف. إِذا أَطل مقبلاً هشَّ له بيتنا وبشّ، وانهالت على ظهر يده اللثمات، ورفعت الطرابيش، وتصدَّر المجلس، ولو على حشيَّة من قشّ، أَو رِقاع. وحالما يستقرّ به المقام يدعوني إِلى قراءة الإِنجيل فوق رأْسه، فأفتح راحتيّ، وأُصلِّب وأَتلو: « في ذلك الزمان قال الرب يسوع -وأَتلاثغ بنطق « الراء »-. أَما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد.. حقاً والسلام لجميعكم.. » وهذا ما كنت قرأْ تُه من ظهر قلب. وتَتالى عليَّ القُبلات من أبي وأعمامي.. والكلماتُ المشجِّعة من الكاهن: « عفا الشاطر عفا. عشت يا ذكي.. » فتخالجني نشوة اعتزاز وكرامة.. لازمت الكنيسة، وأصبحت لكاهن الرعية أتبع من ظله (16) . فتعلمت السريانية على يديه، وكنت كلما سنحت فرصة لقائه أتمرَّن على قراءة « رسائل بولس » استعداداً لتلاوة رسالةٍ منها يوم الأحد في الكنيسة.. مَدرسَتي الأولى أسلمني والدي بادىءَ ذي بدء، إِلى بعض المتعلمين، نصف الأُميِّين، من أبناء القرية. تعلَّمتُ عليهم قراءة الحرف العربي والسرياني، والخط، والحساب. وكان كتاب « المزامير » هو المعتمَد، يتلوه كتاب « مجاني الأدب » الجزء الأول، فحفظتُ بعضَ « المزامير » وكثيراً من أشعار العرب وأمثالهم. كان هَمُّ أبي أن أتعلِّم كتابة الرسائل بخطٍ جميل، لأن هذا « علمٌ » له شأنه في علاقاته مع المغتربين من أبناء القرية. فقد أوكل إَليه المغتربون ممن هاجروا في الحرب وما قبل الحرب، بما أرسلوا من أموال، أمرَ استعادة ممتلكاتهم، أو ممتلكات أنسبائهم، وقد تحوَّلتْ إِبان الحرب. بسبب المجاعة إِلى مِلكية الأثرياء، ومحترفي البلْص والاستغلال. فتواردت إليه الأموال والوكالات، فاضطلع بالمهمة على أتمِّ وجه، وقام باسترداد ما بيع مُغابَنَةً من أملاك، بواسطة ما سُمِّي « بلجنة البيوع » التي تألفت لهذه الغاية. كما اشترى لهؤلاء الموكِّلين بعض الأملاك لرغبةٍ منهم. فلم يكن له بدّ من وجود من يؤمّن له المراسلة، وقراءة الصكوك، وما إِلى ذلك. * * * لم يكن للمدرسة الأولى مكان معيَّن. فتارة نجلس على حجرٍ في ظل بيت، وطوراً تحت شجرةٍ في الحقل: ومرَّة في البيت مع زائر يُحسن القراءة والكتابة.. أمام الكنيسة التي بناها الجدود زيتونة منداحة الأغصان، وارفة الظلال. وقد تقزَّمت اليوم، فأصبحت بلا أغصان، ولا ظلال. كنا نجلس على بعض مقاعد صغيرة من خشب، أوحشايا، نحملها مع الكتب والمحابر النحاسية المُلاقة الملتحمة لَصْقاً بمقلمةٍ مستطيلة ذات فَلْكة، تغرز في الزنّار، وأقلامٍ من قصب مبريَّة ومقطوطة.. والمعلِّم! نهيُك من شكله وهندامه. يحضِّر قضبانَه من أعواد الرمّان الطويلة قبل أن يحضَّر درسه، فنتحلِّق حوله، من حيث تصل القضبان إِلى كل من في الحلْقة، إِذا غلط في لفظ، أو تلعثم وتلجلج، أو تاه في شرود.. وكانت التهجئة الصوتية الصائتة جماعياً هي الأسلوب المعروف في ذلك الزمان. وكثيراً ما كان يُغفي المعلم على نبرات الأصوات، ويستيقظ على خفوتها، أو انقطاعها، فتهتزّ القضبان.. ويتثاءَب مؤدّب ا لأطفال.. لم يكن عالمنا عالم أطفال، يراعى فيه عمرهم الزمني، وطبائعُ الطفولة. ولم تكن شخصيةُ الطفل هي الجديرةَ بأن تُرَ بّى، وُتنَمَّى أولاً.. إِنما كان تعلُّم القراءة والخط والحساب هو المرتجى، على نَقَض الشخصية السليمة الناجحة. فالمدرسة في واقعها حَلْقة إِرهاب، وجَلْد، وتركيع. وكثيراً ما كان الكُثُرُ منا يؤوبون إِلى بيوتهم أو أكواخهم وحزوزُ القضبان على أَكفِّهم وأَقفيتهم وسيقانهم، وفي دواغص الرُّكَب مغارزُ حصى، والمارن من آذانهم كالجمرة الحمراء. وكنا نشعر في عمق أعماقنا، بقدرٍ من الجَوْر، وصرامة القصاص. وتمتثل امامنا صورة البقرة والحمار والخروف التي كنا نسوقها إلى المرعى، والعِصِيُّ الغليظة تلهب ظهورها وأكفالها ضرباً وتجريحا. ويتنامى الشعور بالظلامة، إِلى شعور بالتمرُّد، والعبث بكل ما يعتبره الكبار مكارمَ أَخلاق وأَعراف دين ومجتمع، دون أن تنهانا عن ذلك ناهية.. فننفر من المدرسة، ونعبس للكتاب فنتمارض أحياناً ونتهرَّب أحياناً، ونفيء إِلى البيت بعد الغسق، ولو كان في الأَوْبة المتأخرة جَلْدةٌ منتظَرة، لأننا لم نكن نُحسُّ فرقاً بين البيت والمدرسة، فكلاهما سجن إِرهاب، وقسرٍ، وانضباطٌ مقهور. والآباء -غفر الله لهم- لم يكن لهم اعتراض! المهمّ أن يتعلَّم الولد، وأن يحفظ الأُمثولة، ولو عاد إِلى البيت عظماً بلا لحم. فكثيراً ما سمعت والدي يردَّد ما وعظ به « اللاذقاني »: « إِذا شئت أَن تعلم ابنك فهيّىء له القضبان حزماً حزما ». واللاذقاني واعظ مشهور، وكلام الواعظ دائماً سِمْعُ الاذان.. كان يعظ الناس مواعظ تَوْجَل منها القلوب. فيعبدون الله رهبةً من غضبه، ورغبةً في نعيمه.. أَراد مرَّة أن يمثّل جهنم على هيئتها، كما هي في إِيمانه، ناراً تضطرم في غياهب الظلام، فأَطفأَ الشموع وحملَ في مدّ يديه شعلولاً تُلعلع فيه أَلسنة النار، وعجَّ كبقرة السماء (17) فأَرعد فرائصَ المؤمنين، وصبَّ اللعنات على الخطأَة والكفرة، وأنذرهم بالعذاب في نار جهنم الماثلة بين يديه.. فماكنت تسمع في الكنيسة غير ولولة ولجلجة وهمهمة وهثهثة.. و « نجنا يا رب من نار جهنم ». ومع ذلك ظلَّ ابي، وقد روى لي ما رويتُه عن اللاذقاني، يُوقِرُ سمعي ب « إِذا شئت أَن تعلِّم ابنك فهيِّئ له القضبان حِزماً حِزما.. » وعندما اختارني الآباء لأكون معلِّماً في القرية سنة أو بعض سنة، اعتمدت ما اعتمده معلمي وأَبي من أساليب. ولا غروى في ذلك فالمعلم والد -كما يقولون- أي إِِن التلميذ يقتدي بمعلِّّمه كما يقتدي الولد بالوالد. * * * وخطوت في عمر الزمن، وتبرعَم عمرُ العقل وأَثمر. وفي كوامني رواسبُ الجريمة المرتكَبة بحقِّ شخصيَّتي.. فقد أَسلمتني إِلى نفسيَّةٍ مضرَّسة بالقضبان والعِصِيّ، محزَّزة بندوبٍ من قهرٍ وكظم. ولعلَّ عواصف الثورة في نفسي وعقلي حتى الآن لها أَثرٌ من تربية. المدرسة..أيضاً..وأيضاً.. « تعليم الأولاد » -وهو التعبير الشائع على أَلسنة الآباء- كان شغلَهم الشاغل، وهمَّهم المقيم. ولا قِبَل لهم بتحمُّل أَعبائه، ولو بقدر قليل من أجر المعلم.. فانصبَّ الاهتمام على « وقفيَّة » ساسين سمعان المحبوس ريعها على هذه المكرُمة الإِنسانية النبيلة، إِعانةً لهم، وتأميناً لإِلغاء الأُمِّيّة من عقول أَبنائهم، أَو -على الأقل- لإِجادة القراءة والكتابة، وعمليات الحساب الأربع.. وساسين سمعان -طيَّب الله ثراه- من ذوي الغنى واليسار. مِساحةُ أَراضيه واسعة، بعضها يشتمل على أَشجار التوت والخرنوب، والزيتون، وبعضها الآخر محرَّج، أو يزرع حبوباً. وله بيتان: بيتٌ، غرفةٌ منه مسنَّمة بالقرميد الأحمر، أمامها سمَاوَة، أَورثه مع ما يحيط به من أرض لأرملته. والآخر، وهو معدّ لتربية دود القزّ وقفه للكنيسة عيناً، مع أرزاقه كلها، وحبس ريعها على تعليم أَبناء قريته، وذلك بموجب وصيَّة خطيَّة مذيَّلة بتوقيعه، بمعرفة كاهن الرعية وإشرافه. من دواعي الإِنصاف الاعتراف بملء الفم، أَن المسيحيَّة إِِيماناً وعملاً خيِّراً قد تشخَّصت في هذا الرجل المبرور. فابن الإِنسان، وقد تجسَّد لأجل الإِنسان، كل الإِنسان، ما ذكر الإِيمان مرةً في تعاليمه إِلا قرنه بالعمل: « آمنوا واعملوا.. » فالإِيمان بلا عمل فرِّيسيَّة خادعة وصنمية جامدة، ومظاهر طقوس وتعبُّد فقط، وتديُّن بلا دين، ودين بلا ضمير.. فأَي عمل أشرف وأَوفى تعبيراً عن المسيحيَّة المؤمنة من خيريَّةٍ تخدم الإِنسان، فرداً وجماعة، وينهض صانعها أُمثولة تُقتدى، وقدوة تحتذى؟! لكن الهدف من الوقفية لم يتحقَّق.. وخابت آمال الآباء لألف عنعنةٍ، وعنعنة، كمألوف العادة في القرى الدائرة في قوقعة نزاعات محلية، ومشاكسات، غالباً ما تكون وِكالةُ الوقف، أو نِطارةُ الأملاك، أو مَشْيَخَةُ الصلح، أو خِدمةُ الرعية، أو جوعُ بعضٍ من ذوي النعمة، طارِفها وتالِدها، إِلى الجاه الفارغ، سبباً من أسبابها، وتنكفئُ مصلحةُ المجموع إِلى ما وراء الأكمة.. واتخذ الصراعُ أُسلوب النكاية، وكسب النفوذ، ولو على فراغ وكان للسلطة، دينيةً ومدنيةً، دورٌ في هذا الصراع. ودبَّت عقاربُ الأحقاد والسعايات والنمائم، وأصبحت وساطات المتنفِّذين بضاعةً رائجة. والكبار الكبار القيّمون على الأوقاف عطّلوا -ويا للأسف- جدوى هذه الوقفية، أَرضاً وريعاً وهدفاً، فباتت لسنواتٍ معدودات موضوع مشاحنات ومشادّات بين مدَّعي إِرث الواقف، وأَسياد الوقف الكبار من جهة، وأَبناء القرية من جهة أخرى، لطعْنٍ في صحَّة الوصيَّة. وأَصبح ريع الأملاك المهملة لا يساوي شروى نقير، مع أَن أَثمانها تكاد تبلغ زهاء نصف مليون ليرة لبنانية. * * * وحجب النسيان ذكرى ذلك الرجل الخيِّر عن أَذهان الجيل الطالع، في أَعقابه، ولو في شاهدةٍ رُخامية تحمل اسمه، وفاءً له، وتمثُّلاً بالطيِّب من أعماله لتبقى الروح المسيحية النابضة بالنفع العام متناميةً في الناس، جيلاً، فجيلا.. ولعلّي قمت ببعض ما وَجَب، يوم رفعتُ شاهدةً رخامية فوق باب المدرسة الرسمية المنشأة حديثاً على أنقاض بيته القديم الموقوف، حُفر عليها: « مدرسة ساسين سمعان راشد: إِنسانٌ وهب أرزاقه لتعليم أبناء قريته » مذيَّلة بتاريخ وفاته. * * * منافع الوقفيةلم تُحبس علىنيَّة الواقف ومكرماتِه، ولم توظَّف في هذا السبيل. ولا بدَّ من تعليم الأولاد، فهو همُّ الآباء الأهمّ. فالآباء، إِذن، يدفعون أجر المعلِّم عن يدٍ وهم مُرغمون صاغرون، ولو قرَّطوا على منْ يَعُولون… وليكن المعلّم « شيخ الصلح ». أَو لتكن المعلّمة إِحدى النساء غير الأُمّيَّات، وهي في زواجها متبتِّلة، فتتبتَّل لتعليم الأَولاد (18) . * * * المدرسة، هذه المرة، بيت الشيخ، أو بيت المعلِّمة. انتقلت من تحت الزيتونة في الخلاء، إِلى بيت الشيخ.. شيخ الصلح شاب حسن الطِلعة، أَكثر شباب القرية تعلُّماً. بيته العائلي سليل عددٍ من الكهنة. يمت إلى أَبي بماتَّة قرابة، وهو أيضاً عرّاب معموديَّتي. وقد أَعطى التنظيم الإِداري شيخ الصلح، في تلك الحقبة من تاريخ لبنان صلاحيات ذات تأثير مباشر على مصالح مواطنيه. فالتودد إِليه قولاً وعملاً ينبع من منفعة، كما ينبع من احترام، أَو اضطرار. بيته محفِل اجتماعات، ومحكمة مصالحات، وفضّ منازعات، وإِجراء معاملات.. * * * « قم يا ولد إِلى المدرسة » وباكراً ما نقوم، وكتبُنا في مِخلاة، لا تنماز من مخلاة الحمير إلا بكون هذه من خيش، من جنفيص، وملؤها تبن وشعير تعلَّق بالرقبة من أمام، وتلك من قماش، وملؤها كتب ودفاتر، تعلَّق مدلاَّةً من المنكب الأَيمن إِلى ما تحت الإِبط الأيسر، أَو بالعكس.. في موسم البرد القارس يحمل كلٌّ منا بعض حطبات للتدفئة. نباكر المعلم الشيخ، وهو في فراشه، وكثيراً ما يظلُّ متربعاً في فراشه. ليس أَمامنا طاولة، فحضننا هو الطاولة. طوراً نجلس الأُربُعاء، وتارة نجلس القُرفُصاء: أَي نجلس على رُكبنا منكبِّين، وبطوننا ملصقة بأَفخاذنا، وهي عادة الجلوس على الحشايا المصفوفة على الأرض تلك الأيام.. في بكورنا نرى الكاهن الفلاح النشيط، العامل قد عاد من الكنيسة، وابن أَخيه الآخر يتهيأ للذهاب معه إِلى العمل في الحقل، زرعاً أَو حطْباً، أو استغلالاً، وما إِلى ذلك (19).. آه من الحسَاب تعلَّمتُ من عرّابي بعض العربية، وكان يروي أَجود أَشعار العرب، فحفظت أَكثرها، وما حفظتُه كان أَول بذور الحب التي احتضنها قلبي لهذه اللغة. ثم نمت، وبسقت، وأَثمرت على أَيدي منْ تتلمذتُ عليهم من أَقطابها في التالي من السنوات.. أَما الحساب فقد آلمني، وهدَّ ظهري الحساب؟! علمٌ كرَّهني به أُسلوب تعليمه، فهو ذهني تجريدي. أَجزاء الوحدة: البارة، والزلطة، والحبة والشعيرة، وما لست أَذكر. والعقول الطريَّة لا تستوعب المعقولات إِذا لم تقترن بالمحسوسات. فنحن من المعلم « كالأطرش في الزفة » لا نفهم.. والعصا الغليظة عقاب من لا يفهم هذه الألاغيز.. مادة الحساب خرجت إذن، من دائرة تعلمي، لأنَّ مَنْ تعلَّمت عليهم، فيما بعد، كان لهم ذات الأُسلوب، وذات الطريقة، وذات العقاب. وما زلت الى اليوم عاجزاً عن حل أَبسط مسألةٍ حسابية.. والمعلمون هم المسئولون!! والمعلمة تلك كالمعلم ذاك، مع الفارق في المستوى لا في الأسلوب. * * * وظلِلت في أَيام الطلَب يختلج في نفسي سؤال: أَأنا مُصاب ببلادة عقل؟! ولِمَ هذه البلادة في فهم الحساب؟ وليست في فهم اللغة؟! سريانية وعربية، وفي الشعر؟ أَليس العقل في سلامته هو إِياه في قدرته فهماً واستيعاباً؟! لايوجد من لا يفهم. يوجد من لا يُحسن التفهيم. كما لا يوجد من لا قدرة له على التعلم، يوجد من لا يجيد التعليم، من لا يجيد نقل معرفته إِذا كانت له معرفة إِلى طالبها، بأسلوب شيّق سهل، وفي هالة من الحب،والرصانة والثقة المتبادلة. فأين العِلَّة إِذن؟! إِنها أَصلاً في المربّي، وفيالمعلم! هي في إِهمال ما تستلزمه التربية في السنوات الست الأُولى، وما بعدها بقليل، من اهتمامات هادفة واكتشافات باعثة لميول الطفل، وبراعم شخصيتهه الطريَّة. لأن روافد هذهالشخصيَّة في مستقبل أيامه إِنما هي من هذا الخزين.. هذه المرحلة من العمر، في البيت والمدرسة، وهي مرحلة تربيةٍ أولاً، وتعليم ثانياً، لم تكن في القطب من الدائرة، يتردّى فيها الطفل إِلى الحدِّ الأقصى: الاهمال، واللامبالاة: نظافةً وهنداماً وغذاءً. والانضباطية تعني في العرف العام السائد، كسرَ إِرادته،ولجم نزعاته، أو نزواته، وتفتيت ما في إِرادة الحياة فيه من نواة صُلْبة، وهي، في آخر تحليل: تختصر سائر غرائزه. فليس المطلوب قهر الغرائز، بل ترويضها، وأَنسَنَتَها، لتصبح حوافز إنسانٍ سويّ، يمارس إِنسانيته، ويتعامل والحياة تعامل الانسان.. وما من فطرةٍ أَساسية في الانسان يجب أَن تُحتَقَر. فإنما تشَرَّفُ الغرائزَ بأسلوب استخدامها. والعصا! آهِمن العصا؟! إِنها الجانية، والمعلمون هم الجناة الجهلة، وهذه الزغاليل البشرية هي الضحيَّة..! لقد اندسَّت في شخصيتي عدة مركّبات وعقد تخطيتُها بأسلوب الرجال. وما أَزال أُحسّ بنوابضها في العمق، مع ما أنا فيه من عمقٍ ثقافي، ومكانة اجتماعية. وينقلني شعوري، في آخر تحليل إلى الطفولة: بيئة وتربية. وليست البيئة بيتاً فقط، ولا مدرسة فقط، إِنماهي مجتمع الكبار.. وما تسمع وتشهد من ممارسات الكبار، ومسامرات الكبار، ومخاصمات الكبار، و »مفاكهات » الكبار، وما خفي واستتر من أَحقاد، وتشفيات، وأَنانيات وما لا تحيط بتعداده العبارات. يأمروننا بمعروف، ولا يكون أمرهم بمعروف. ينهوننا عن الكذب، وأَمامنا يكذبون. يحذروننا من السرقة، وعلى مشهد منا يسرقون. يعيبون علينا البذاءة وأَلسنتهم مباءة بذاء. ينصحون لنا بالتحابّ، وللتوافه من الأمور يتباغضون. ولا يتزاورون، فكيف يُعطوننا ما هم إِليه مفتقرون؟! ومن على منابر الكنائس مواعظ تتدفَّق كالنبع الثرثار، منذرةً متوعدة، بدينونة جهنَّم، ومبشرة واعدة بثواب النعيم للمتَّقين. ومسافة ما بين القول والعمل مثل ما بين الأرض والسماء، أو مثل ما بين الشمس والفيء.. وتنزوي المواعظ الصائتة كلماتٍ خجولة خرساء وراء باب المعبد، ولا يمشي بها لافظهابين الناس مثلاً حياً في نور الشمس، لأن هَمَّ الرّتبة والوظيفة يتغلَّب على هَمّ الايمان والوصيَّة. ثم تأتي الجريدة والمجلة، والسينما والاذاعات المسموعة والمرئية.. أَليست هذه كلها بعضَ ما تحتوي البيئة، من عناصر التربية والتعليم والمثُل؟! قصاص غير متكافئ و الذنب يا… عبد… الله… نداء موصول العِياط على غضب وزعيق: « بتاخدو ميّاتنا وبتاكلوا مشمشاتنا… » والشخص المعطعِط واقفٌ على رجمةٍ مشرفة على الحصيدة، بقامته الفارعة، وطربوشه المنكفىء إِلى وراء (20) ، بحيث يراه أبي ويسمع نداءه..! لم يكن بيته على مبعدَةٍ قصيرة من مكان الحصيدة، وقد توقَّلْت عقبة كأداء ذاتِ درجاتٍ والتواءات، حاملاً جرة صغيرة (دورة) أََملأها ماءً من بئر ذلك البيت، لنتغدَّى ونشرب، وشمس الظهيرة محرقة صاخدة، والعرق ينهلُّ مني حرّاً وتعباً. في أثناء عودتي، وأنا أُزحلف في تلك العقبة، تشهَّيتُ شجرة مشمش يتدلَّى منها الثمر عثاكيل متشلشلة، وهي في أَوان النضج، فاختلست ثمرة واحدة فقط.. وظننت أني في منأى عن عين رقيب، وما وصلت إِلى حيث أبي، وأنا أسمع تلك العَطعَطة، حتى خطر في قلبي هَوْلُ العِقاب. وسُئلت عما فعلت، فصدقت أبي الخبر.. وطار صوابُه.. أَتدري ماذا كان العقاب؟ عقابُ مدّ اليد إِلى رزق الغير، ولو كان ما امتدَّت إليه ثمرةَ مشمِشٍ واحدة؟ واحدة فقط؟! كان الصلْب، راكعاً في شمس الظهرة على حصى التراب واعجاز الزرع، ويداي الشائلتان تحمل كل منهما حجراً موزوناً. لم أذكر مُدة الصلب.. وهرول أبي مسرعاً، يتوقَّل العقبة إِلى البيت الذي استقيت من بئره،ليطلع صاحبه على ما أَنزل بي من عقاب. وقال له، لو كنتُ « أبو سعدى » لبقرت بطنه، ونبذت منه تلك الثمرة المشتهاة..! عقاب صارم لا يتكافأ، في نظري، وذنباً كهذا، غيرَ ذي خطورة، وربما يكون خطأ لا خطيئة. واندسَّ في كامنتي شعور بالظُلامة عميق. واختلَّ عندي ميزان العدل، لاختلال الغاية من القصاص. فهو إِنتقاماً أكثرُ منه عقاباً رادعاً! وباتت شجرة المشمش، حتى ثمرُها، إِلى الآن مبعثةَ اشمئزاز، وإِغماضةِ عينٍ لاشعورية عن كل ما أُصادف في طريقي من ثمار الغير. لعل في هذا القصاص، مع ما هو عليه من شطَط، تربيةً نافعة، لعفة النفس، واليد، والعين، ولكنه مطعون فيه من حيث العدل، لاهتزاز مفهومه عندي، ومن حيث ما عَمُق في نفسي من جراحات تراخى اندمالها.وهذا، إِن دلَّ على شيء فعلى عفَّة في نفس أبي،ونقاءٍ في ضميره يريدهما أن يكونا خُلقاً من أخلاقي، على ندادةٍ في الأُسلوب! وأَعترف أن الشهوة الحرام انتفت من نفسي، أوكُعِمَت على كظم: شهوة المال، وشهوة اقتناصه كيفما اتفق، وشهوة السرقة. وقصُرت يدي عن مسّ ما هو حرام، أو ما تواضع عليه الناس من حرام. وقبلئذٍ كنت أَنسلّ إِلى قبو أحد الجيران أسترق بعض البيض لأشربه نيئاً مُملَّحاً، بصفة كونه -كما تناهى إِلى سمعي- أفضلَ الأغذية المغذية. وكان بيضُ دجاجنا لا يفي بهذا الغذاء. وامتنعت عن ذلك الحرام يوم انسللْتُ وحائطَ القبو قُدُماً-كعادتي- أُضائل شخصي وأَحتبس، حذراً من عين، وانصبَّت علَيَّ اتفاقاً أَوساخ « مستعملة » أَصابني منها رشاش غير قليل، فهرولت أتعثر بالعار والخجل.. وكانت الخاتمة. ولم تعِ الذاكرة أن أَبي رضي مني مرةً عن سرِقة شيءٍ، ولو يسيراً تافهاً، وارتاح إِلى عملي متجاهلاً، منبسطاً، ساكتاً، ليكون سكوته رضىً بسرقةٍ أُخرى.. فما كان حلالاً إِلا حلالُه.. وحدثني عن أبيه وعن جدّه، وعن رجالات دينٍ أنهم كانوا يقولون: لماذا تسرِق مادُمْت ملتزماً بردِّ المسروق، عيناً، أو ثمناً، إِذا شئت أن تكونَ من ذوي التقوى والنفوس الكبيرة.. وتعترف.. وتتناول جسد الرب؟ » ولا تنسَ أنك أنت صائر إِلى تقبَّل سرّ مقدس يمتثل فيه المسيح بين يديك بكلام جوهري..! رحم الله والدي أَوسع رحمة.. ورحم أَشباهه من رجال ذلك السلَفِ الصالح، كأن الله لم يخلق لخشيته إِلا سواهم. فقد مسَّهم لدغ الضمير، فاتَّقَوا الله من غير وُعّاظ، وأخذوا الحكمةَ من غير حكماء.. فإنما هذَّبت التجاربُ نفوسَهم، وقَوَّمت أَخلاقهم مدرسةُ الحياة.. ولكنها لم تترك أَثر طينةِ في من يُقال فيهم بحق، وما أكثرهم!: « أُناسٌ تدوس إله الضمير وتحني الرؤوس لعجل الذهب » وأسأل نفسي الآن لماذا كنت كثيراً أَو قليلاً ما أسرق، أو أشتهي مقتنى الغير؟! وقد تعلَّمت، فيما تعلَّمت، من الوصايا الإِلهية، وهي النواهي الأدبية التهذيبية، وصيتينِ ناهيتين: « لا تسرق.. لا تشتهِ مقتنى غيرك.. » وكان الاعتراف -وما يزال- نقداً ذاتياً، وتنقيةَ ضميرٍ آثم امام الله، عبر سلطة الكاهن، يصحبه، ليكون ناجعاً، تصميمٌ قاصد على ترك الإِثم والابتعاد عن الخطيئة.. ويتراخى التصميم والقصد، والندامة، ويتكرر الإِثم، بفعل الدافع نفسه، ما بقي هذا الدافع.. وما هو هذا الدافع الذي لا ينهنهُه ضمير، ولا تصدُّه وصية؟! أهو الفقر؟! أهي الحاجة؟! وممَّ الفقر؟! وأبي تِبْعُ عمل موصول، وإِلف ُتقىً متَّبَع. أفقرٌ مصنوع؟ أَم مطبوع؟! في الأمثال -والأمثال تجاربُ الشعوب ووصفٌ ضمني لوسائل حياتها وطرق معيشتها-: « الخلة تدعو إِلى السلَّة ». و « يكاد الفقر أن يكون كفراً ». وأبو ذرِّ الغفاري يقول: « عجبت لمن لا يجد ما يأكله، كيف لا يخرج إِلى الناس شاهراً سيفه؟ » وجمال الدين الأفغاني يقول: « أنت أيها الفلاح تشق قلب الأرض. تستنبت منها الثمرة، فلماذا لا تشق قلب الذين يأخذون من فمك تلك الثمرة؟.. » لماذا يمدُّ سارقٌ يدَه إِلى جيب غيره لينقلَ ما فيه إِلى جيبه، أَو إِلى رزق غيره ليجعله رزقَه؟ أَلاعتقاده أن « الحياة » لم تعدِل في توزيع خيراتها، فهو بالسرقة، والاغتصاب، والابتزاز، يعلمها العدل، وهي في التاريخ المنظور وغير المنظور مختلَّةُ التوزيع؟ والحياة؟ ما الحياة؟! كلمة مسيَّبة المعنى، غائمة المدلول.. فمن هو السالب الأكبر، ليستردَّ الأصغرُ ما سلب منه؟! هنا ا لمسألة.. وهنا تساؤلات تفترض أجوبة واضحة تدعو إِلى قناعةعقلية في مدار الواقع المعايَش. أيكون جواب أَحدِ صغار اللصوص للاسكندر أحدَ مفاتيح الأجوبة عن هذه التساؤلات؟! وإِليك الحكايه: قَبضَ الاسكندر يوماً على أحد لصوص البحر « القراصنة ». ولما سأله: بأي حقٍّ تسرق مال الغير؟ أجاب اللص الصغير: « أنا أسرقه بسفينة صغيرة فيدعوني الناس لصاً، أما أنت فتسرقه باسطول كبير وتسمَّى فاتحاً، وملكاً عظيماً..!! » عالم الطفولة عالم الطفولة كثير المجاهل، متباين المناخات، خاصّ الطبائع. يتأثر إِنسانه بكل ما يتفاعل فيه من ممارسات، ومعايشات، ومعابثات، ومحاكات، وألعاب، وبهجة، واكتئاب، وانطواء، وانبساط.. في منابت هذا العالم تتخلَّق الجذور والأغصان، وتتبرعم الثمار. وعلى شرّيَّة هذا العالَم أو خيريَّته، عَبر ما يعتمل فيه من تربية بمعناها الشامل، يكون إِنسانه معطىً من معطياته.. وقد أَلمح الشاعر العربي إِلى ذلك بقوله: « قد ينفع الأدبُ الأطفالَ في صِغَرٍ وليس ينفعهم من بَعده أَدَبُ » « إِن الغصونَ إِذا قَوَّمتَها اعتدلت ولا يلين، ولو قوَّمتَه، الخشَبُ » وتجربة العلم التربوي الحديث، تنهض دليلاً على أَن بواعث الوراثة تنكفىء حاسرةً أمام بواعث التربية، إن لم تكن هذه عامل تغييرٍ وإِزالة… وإِذا صحَّ أن ألعاب الطفولة همي أعمال الرجولة، أو أحلامُها.. فقد كان لرجولتي من هذه وتلك بعضُ نصيب. من بَدائه الطفولة أن يكون لها ألعاب، وهوايات، تتوافر لها في البيئة والنشأة. ونشأتي في بيتٍ قروي فلاَّحي متخلِّف، فتحت بصري على أعمال الكبار من أب، وأعمام، وجيران، في نطاق معاشراتهم، وأحاديثهم. كان لي عمّ (21) ، قُبِضَ قبل سيامتي كاهناً ببضعة أشهر، وهو إِِحدى ضحايا الوباء الذي تفشَّى في قريتنا تلك السنة، ووقف الطب عاجزاً دونه، تشخيصاً ومداواة، فغيَّب عنها عدة وجوه بينها احد الكهنة (22) . كان هذا العم صَناعَ اليدين، يُحسن هندمة الحجر وبنيانَه، كما يُحسن نجارة الخشب، نجارةَ ما يحتاج اليه الفلاح من أدوات الحرث والنقْل، وعِصيّ المعاوِل، والرفوش، والفؤوس، والنوارج، والِمنسَّات.. وما إِلى ذلك.. فكنت أُلازمه، أو كان يدعوني إِلى ملازمته خوفاً عليَّ من اللعبِ في حرّ الشمس، أَو من التعرُّض للبرد. فأُراقب صَنعه للمحراث بكل أَجزائه: أُْلاحظ كيف ينجِّر « الصِّند » والموصِلة، والدكَر والنير، والدُّويك، والكابوسة، والحلْقة، والمِسفلان، والخابور، والعصفورة، والمدراة، والعترينة، والشَّند، والمطلع والسلَّم، معالجاً كل هذه بالقدوم والمنشار، والبريمة، والإِزميل، والفارة (المِسحج)، فتستوي هذه الأَخشاببين يديه أدوات هيّئة، صالحة للاستعمال. وكنت أُحاول تقليده ومحاكاته بصنع نماذج صغيرة من هذه الأدوات.. فأطبع على غِراره في مجال ما للطفل من قدرة. وكنت أُراقبه أَيضاً في أَعمال البناء. فألاحظ هندمة الحجر بالشاقوف والإِزميل، والناقوشة، والشاحوطة، ليستوي في مداميك حجراً لِصق حجر، بشاقولٍ وفادِنٍ ومِلعقة.. وكنت أَصحب أَبي إِلى الحقل، فأجلس تارةً في ظل شجرة أَو حائط، أَقرأُ وأَكتب، أَو أَحسُب، وطوراً أُناوله حجراً أو حصاةً، إِعانةً له في تشييد الحيطان، والأَهْدام. وأحياناً، بيدي منكاش صغير أَنكش به الأرض، وأتعلم عليه طريقة البذر والحرث وهندسة استصلاح الأرض عزقاً ونقباً.. وما إِلى ذلك. تلك الألعاب لم تكن أَلاعيب، وتلك الهوايات النافعةلم تكن غوايات تافهة، بل هي ممارسات عملية، اكتسبت بها يداً مفكِّرة صَناعاً، وعيناً فنِّيَّة ملاحِظة، وحباً متنامياً للأرض، شدّاً إِليها، ولَصقاً بها، ومتنفَّسَ حركةٍ مؤطَّرة، تنأى بي في أكثر الأحيان عن عشوائية المعاشرة والانفلات.. وبزغ بي كبريائي الذاتي، ونوازع الثقة بالنفس، فكنت في أوقات فراغي من الكتاب، أمارس هذه الهوايات والألعاب، فأعمّر بيتاً صغيراً في ظل توتة، أو أُنجِّر عربة، وأصنع دولاباً، أو أنقض حائطاً متداعياً لجلّ، وأعيد بناءَه مستقيماًً على مطمار، وأسترق أَدوات النجارة والبناء من مخابئها، وقد تُصاب ببعض الفلول والأعطال.. فيجيء عملي هذا في نظر الرا بَّة، تخريباً وشيطنة. كنت وَرِشاً، منفتحاً على أي عمل وُلُودِيّ، ومَزعجةً لامرأةٍ في بطنها جنين، وفي حضنها طفل، وكنت إِذا تسخَّطتُها بمبالطةٍ أو معاندة، وأمرتني بقعودٍ عاقل، تدعو عليَّ بقول: « ريتك تقعد بِقلَيْط »..فلم أفهم معنى « الدعوة » التي تردَّدت كثيراً، سِمْعَ أُذني صغيراً، عليَّ وعلى أَترابي المتبالطين، حتى فهمتها كبيراً، مثلاً شامياً، وأنا على منبر التدريس في دمشق. و »قُلَيْط » نهر فيها تصبُّ فيه مجاريرها القذرة وكلّ أَوساخها. وعندما يفي أبي من الفيافي تبادره الزوجة-الرابَّة بالشكوى، والتشكّي، فتقع بيننا الواقعة. فطوراً يتناولني بالضرب، وطوراً أَتَّقيه بالهرب. وكثيراً ما كنت أنشز من البيت لاجئاً إِلى هناك وهنالك أياماً وليالي، كأنني من الآبقين.. وغالباً ما كان هذا النشاز مدعاةً إِلى حزازة نفس تنسحب على ما بيني وبين البيت من أواصر: « وقد ينبت المرعى على دِمَنِ الثرى وتبقى حزازات النفوسِ كما هِيا » والطريف حقاً من ألعابي أني صنعت مرةً محراثاً تامَّ الأجزاء بما فيها « سكة » من « تنك ». وبعد محاولاتٍ شاقَّة، وخطرة، تمكنت من القبض على هرين اثنين جمعتهما في قَرَن، و بدأ تراب « الدوّارة » الواسعة أمام البيت ينثلم خلفهما ذهاباً وإِياباً، على مشهدةٍ من مصادفات العابرين صغاراً وكباراً وهم يتضاحكون إما إِعجاباً، وإِما استهزاءً والكبار -رحم الله الكبار- كُلُّ ما نعمله نحن الصِّغار شيءٌ صَغار!.. وظلت ألعاب الطفولة وهواياتها هي أعمالَ الرجولة. فاستمرَّت أوقات فراغي شاباً وكاهناً ومعلماً ومربّياً، محشودةً بإنشاءاتٍ صَنعَ يدي العاملة في الأرض والبناء، لا أَلقي بالاً إلىتعب، أو عَرَق، لأن « مَن لا يعاني الصعاب لا يعرف حلاوة الظفر ». وما أذكر اني ملأت فراغي بما يسلّي من هواياتٍ وأَلعاب.. فما عرفت اللعب بالنرد، ولا الورق، إِلا ورق الكتابة.وما تسلَّيت بكتابٍ لمجرد التسلية، وقتل الوقت نفياً لضجرٍ خامل كسول. وما حسبت الساعة تدور، لأنها تدور، بل عملاً يقاس بقيمة العمل إن ليلاً وإِن نهاراً. وما كان بعض هذه الأعمال موردَ ارتزاقي وقِوامَ عيشي، لأن اتجاه نشأتي هو الكهنوت، وهو ذِروة أَحلامي في الغدِ المنظور. وكنت أيضاً في سباقٍ مع الزمن لتحقيق هذا الحلم.فأصبحت الكنيسة الأم مرتجاي، وكنيسة العبادة مُختلَف زيارتي، وملازمة الكهنة إحدى رغباتي، وممارسة الطقوس محتوى دعوتي، وسفينة خلاصي: خلاص النفس، وخلاص العيش. لأننا، هكذا، كنا نفهم المسيحية، دينَ عبادةٍ، وكهنوتَ المسيحية مراسمَ وصلوات.. عبرَ مواعظ الكهنة والرؤساء، وسلوك المسيحيين، مع ما كنت أرى منتناقضٍ ملحوظ بين الأقوال والأعمال، على صعيد العلاقات الاجتماعية ومكارم الأخلاق، ومناقب الدين. وكان المبرِّر دائماً: « اسمعوا أَقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم.. » وتعجَّلت الوصولَ إِِلى الحُلُم المشتهى.فكان اللباس واللحية من بواكير علائم الدخول في هذا السلك، باعتبار أَنهما-في نظري على الأقل- يضعاني في دائرة الوقار، والتزام سلوكٍ قويم منضبط، يحافظ على نقاوة الثوب، فلا تطعن به خطوةٌ نادَّة، أو تحوم حوله ظِنَّةٌ شاذَّة.. وكان ما يتسامع به الناس، عن هذا الكاهن أو ذاك، من شاعةٍ وقالة، حذيراً لي أَيَّ حذير.. وأسمَع أَبي يردد دائماً في صلواته: « يا ربِّ لا تجعلني حذيراً لغيري.. » ففي رأس همومي واهتماماتي حسن الأحدوثة، احتراماً لشرف الكهنوت من جهة، وتعويضاً عن مركب نقصٍ مصنوعٍ تربوياً، واجتماعياً، وشعورٍ يالضعة مدسوسٍ في كامن العقل من جهة أخرى.. وأبي كان لا تخطئُه مني رصداتُ خيرٍ أَو شرّ. يحول بشتى الوسائل دون انسياقي وراء ما يظنه استجابةً لنداءِ الجنس، مثل التعطُّر والتطوُّس، والتبرُّج، ومرافقة البنات، لأنه كان يريدني كاهناً بتولاً، حتى إِنه كثيراً ما نهِاني عن الوقوف أمام المرآة، أتمشَّط كيلا أَكونَ حسَنَ الِمشطة والهندام، فلا أَقع من قلوب الفتيات موقع هوىً وإِغراء.. ومرَّةً رآني أَتمشَّط، فنهرني بغضبٍ: « بيّك بزمانو ما مسكو.. » يعني المشط. فأجبته تحت تأثير انزعاجي من مثل هذه النواهي المتكررة: « وكيف تزوَّجتَ مرتين؟؟ وانا أَعني شيئاً آخر. فأغضبه هذا الجواب الناشز، فهمهم وتسخَّط.. فما بالَيت.. أَلم يُوصِ الأحنف بن قيسٍ معاوية « بأَلاَّ يكون ثقيلاً على أَولاده فيملّوا حياته ويحبّوا وفاته »؟! عقدَة ذنب لست على بيِّنَةٍ من االسَّنة التي اقترفتُ فيها ما أَصبح في كامنتي عقدة الشعور بالذنب، ولكنها، على الأرجح، آخر سنوات الحرب.. * * * ذات ضحىً، جلست أتشرَّق على الدّكَّةِ الصغيرة الضيقة، في مدخل البيت، وأَمامي دارة لنا تتماوج فيها سنابل القمح « الدوشاني ».. فرأَيت السنابل تتقصَّف بين لحظةٍ ولحظة، سنبلةً سنبلة. ولمحت بين سيقان الزرع النامية، شيئاً كالشبح منبطحاً على الأرض في امتداد. صرخت بعمي مشيراً إِلى حيث الشبح، خائفاً مذعوراً.. فما كان منه إِلا أَن انتهره غاضباً، وقفز إِليه بسرعة البرق، فحمل ما كان مجموعاً من سنابل عائداً بها إِلى البيت وهو يُبربر. وانفلت ذلك الإِنسان الشبح من يديه، بحُشاشة نفسه، منحدراً في تلك الرجمة بتثاقلٍ وبطء. وهو من حيث كان إِلى حيث يكون، على مسافة خطوات.. العائلة منها من مات، ومنها من اغترب، ولم يبقَ في ذلك البيت المحادّ لطريق المارَّة غيرُ هذا الشبح. وصباح اليوم التالي، سمعنا لغطاً وجلبة أَصوات.وارتفع صوتٌ يقول: ماتت فيكتوريا! وقادتني وُلوديَّتي إِلى هناك، واقفاً على الطريق في مواجهة القبو الذي فاضت فيه روح تلك المسكينة الجائعة، على خِرَقٍ من لحاف لا يُعرف له لون، عريانةً إِلاّ من مِزَق الثياب المهلهَلة. وفي تلك الدارة الصغيرة أَمام القبو، حفر الناس حفرةً وضعوا فيها ذلك الجسد الناحل، وهالوا عليه التراب. ترى؟! هل كانت الصبيَّة ماتت لو تركت لشأنها، تأكل من القمح ما شاء لها الجوع أَن تأكل؟! وما حاجتنا نحن إِلى قُبضة من سنابل، وآلاف الآلاف منها تنوس متماوجة في ذلك الحقل؟! هل تسبَّبتُ أَنا بموت هذه الإِنسانة؟ قال لي ذلك العم: « أَكثرُ الناس ماتوا جوعاً، أَومرضاً.. المهمّ أَن لا نموت نحن.. أَن لا تموت أَنت جوعاً »! وباتت تلك « الحارة » (23) خاوية خالية، إِلا من سقفٍ دالف وبعضِ ضِلْفات من أَبواب مخلعة..كنا نلجأ إِليها من الحرِّ أَتراباً يلعبون ويتلاعبون، ويتشيطنون.. وتحوَّلتْ يوماً إِلى مدرسة، وكنت أَنا ذلك المعلم. كنا نحتشُّ حولها، ونختبىء في قبوها من عيون الرقباء، وبيننا من هو أَكثر منا تلبية لنداء الطبيعة الباكر (24). وكانوا يسرِّجون علينا كلاماً يفهم منه أَن في تلك « الحارة » جاناً ورصداً. وكنا نصدِّق أَساريج كلامهم. وتسأَلني: ماذا بقي لك من تلك الذكرى وقد طوتها ماضيات الأيام؟! – بقي لي منها أَلمُ الشعور بالإِثم، وإِن لم يكن محسوباً، آنذاك، على وليدٍ في مثل عمري! وفائدتها: أَنها أَرهفت حسِّي كلما تصوَّرت أَشباهها، في البؤساء من بني آدم.. الخوري والبِسَّة قعدتُ مع عمي ذات يوم أَتفرَّج، ويداهُ تعالجان خشبة تارةً بالقدوم، وطوراً بالمسحج، والإِزميل. وانهالت عليه الأسئلة من طفلٍ أَدرك العمرَ الذي تكثر فيه السؤالات، ليتعرَّف إِلى كل ما يقع تحت نظره، في عالمه الجديد.. أَسأله: ماذا تعمل الآن؟ لمَ هذا؟ ولمَ هذه؟ ولمَ تثقب هذا؟وما اسم هذا الذي تثقب به وتصقل؟ الخ الخ.. فيجيب عن كل سؤال. ويستمرُّ في العمل، وتتهيَّأ الخشبة بين يديه، كما يشاء.. وإِني لكذلك إِذ شاهدت « البسَّة » جاثمة بلا حراكٍ تترصَّد. فسألت عمي: – لماذ تقعد البسَّة هكذا؟! – ترصد الفأرة، لتأكلها.. – كيف تكون الفأرة؟ – حيوان صغير له ذنب طويل. – وماذا تأكل أَيضاً؟ فأَجابني، وكأنه ضاق بأسئلتي وتبَّرم: – بتاكل خوارنة. – بتاكل الخوري.. منصور؟ -والخوري.. حنا، كمان.. وبطاركة ومطارين. وصمتُّ.. وصَمَت، وطبيعي أَن لا تنتهي أَسئلتي أَو تقف عند حدّ.. ولكن ما ذكرت هو الذي وعته الذاكرة ولم يطوِه النسيان. وزارنا الخوري.. فنهض الجميع مرحِّبين: « بأهلاً وسهلاً بالأبونا.. » وأُمِرْتُ بلثم يده فأعطانيها مطواعاً، فأطعت. وقعد « الأبونا » في صدر المجلس، ودارت الأحاديث. وقعدت أَنا، عيني تارة علىالبسَّة الجاثمة، وطورا على « الأبونا » أَترقب هجومها عليه. لم يحدث ما كنت أَترقَّب. فتزعزعت ثقتي بكلام عمي، وصرت، إِذا سألته وأَجابني أَشكُّ بصحَّة جوابه. قام « الأبونا » مودِّعاً، فقاموا معه وحيَّوه ب: « لا تنسانا من دعاك.. » وما أَدار ظهره خارجاً من الباب حتى سمعت كلاما عليه.. وكلام الناس على الخوارنة، ورؤساء الخوارنة، والتنادُر عليهم فنونٌ وشجون، يقولون: هذا يحب المال! وذاك يديِّن بالفائدة. وذاك يشتري سماداً وأَحذية بقداديس. وهذا إِذا طارت من يديه ورقة السيكارة يركض وراءها ملتاعاً حتى الوادي.. ويقولون: ليس في قاموس الكهنة كلمة: خُذ.. بل كلمة: هات.. هات.. ويقولون: الخوري ينشر أُذنيه دائماً لدقَّاتِ الحزنِ من جرس.. ويتهلَّل وجهه لدن رؤيتِهِ ورقةَ النعْي السوداء! إِلى ما هنالك من قذائع وأَفاعيل.. ومع ذلك كله تراهم يتهافتون للثم أَنامله، وإِرسال التحية له من بعيد. وكنت لا أَدري لذلك سبباً.. وعندما صرت أُميِّز منافع الأشياء ومضارها بعد معرفتي بها، تأتَّى لي فهم هذا التناقض، وهذه الازدواجيةِالتي تعني، أَوَّلَ ما تعني، رياءَ الناس ونفاقَهم، رياءَ من برت صفائحَ المعبد جباهُهم، ونفاقَ من لم يعرفوا بابَ المعبد قط، فهم يكذِبون على أَنفسهم، وعلى من يتظاهرون لهم بالاحترام والإِجلال « لا يكذب المرء إِلا من مهانته أَو عادة السوء، أَو من قلَّةِ الأدبِ » لماذا هذا؟ وأَكبُر.. ويكبُر تساؤلي. وأَزداد وعياً وثقافةً وتجربةً وتساؤلاً، لماذا هذا؟.. أَهو التناقض الماثل بين الأقوال والأَعمال؟ بين الكهنوت رسالةً، والكهنوت « تجارة »؟ بين مسيحية لا تُمارَس، ومسيحيين يمارسون الوثنية فكراً ومظهرا؟ أَهي السلطةُ التي تحولت باِلمراس إِلىتسلُّط وتحكُّم، واستعلاءٍ في التعامل مع الناس عوضَ التعاطف مَعَهم ببساطة قلب وانفتاح محبَّة؟! فجاء التنادر على ذويها متنفَّسَ المقهورين، والكادحين، وكاظمي الغيظ؟ أَهو الطمع بالذي يضر، ولا يَنفع؟ أَهي شهوة الاقتناء، والاغتناءِ الجائعةُ إلى المال، ضمانةً للحياة، وآخِرة الحياة، وليس غيرُ هذا التكسُّب بالدين ضماناً للعيش الكريم؟! أهو المالُ معبوداً آخرَ تتهافت إِليه الأيدي، حين ينبغي ان تتهافت إِليه الأقدام؟ والناس في ذلك من رجال دنيا ودينٍ سواء. ويصل بي التساؤل إِلى حدّ القناعة بأَن ناسَ هذا المجتمع الذي أُعايشُه يعبدون « رَبَّه »، وهو الجبّارُ القهّار، ربُّ الجنود المالكُ سعيداً في صناديق المصارف وتجّار السلع.. « وقلَّما يتخلَّص التاجر من الإِثم »! أَما ربُّهُم، وقد خلقهم على صورتِه ومثاله، ليكونوا مَثَلاً أَعلى، وكمالاً أَسمى.. ليكونوا صورة الخالق في المخلوق، فكلُّ طقوس العبادة، وممارسات « الرسل »، وشرائع الحكّام، وما يترتب على هذه من أَخلاقياتٍ ومحرماتٍ ومقدَّسات، إن هي إِلا عبوديِّةٌ منظَّمة لِما يملكون. وعوضاً أن يكونوا على صورة الله الخالق ومثاله، أصبح الالهُ الذي خلقوه، على صورتهم ومثالهم، هو الالهَ المعبود، حرباً أو سلماً، ظلماً أو عدلاً.. فتكيَّفَ الدين تأويلاً وتفسيراً حسب حاجات المتسلِّطين المتحكِّمين وأَذواقِهم.. ولم يبقَ له أَثر قطُّ في إِلغاء العنف والوحشية والمظالم.. كما لم يبقَ له أَثر في الأخلاق.. وعندما أَدعو إِلى تنقيةِ المسيحية من شوائب الوثنية، أَستضيء بالتاريخ هادياً ودليلا. فأيُّ فرق بين وثنية البابليين ومن إِليهم، ومسيحية المسيحيين؟! وعلى جميع الأديان السماوية ينسحب هذا السؤال. هل كان الدين في بابل (25) ، وقد اخترتُها مثلاً من أَمثال، غيرَ اعتناءٍ دقيقٍ بالمراسم أكثرَ منة بالحياة الصالحة؟! كان على البابلي التقيّ المتعبِّد، ليكون متعبداً تقياً، أَن يشارك في الاحتفالات خاشعاً، ويَحرُق البخور، ويقرِّب للهياكل القرابين، ويتلو الصلوات والأدعية، وفي ذات الوقت، لا يُسيء إِلى آلهته ودينه وضميره ؛ أن يفقأَ عينَ عدوِّه المهزوم، ويجُبُّ أَعضاء الأَسرى، ويشوي أجسامهم، وهم أحياء، أو يغتصب أملاك الآخرين أسلاباً وغنائم..! وأتساءل في هذا الضوء بعدئذٍ: أين هم المسيحيون من الناهية المسيحية الآمرة: « لا تعبدوا ربين: الله والمال ». وأيةُ جدوى للأديان السماوية المنزلة إِذا لم تنزل روحانية في القلوب والضمائر وسلوك الناس؟ وافتح بين يديك صحائف التاريخ -والتاريخ ديوان العبر- تجد أنَّ الأخلاق تنحدر، وتنحطّ منساقةً بثروة الهياكل، وأن الجرائم هي في خزائن المتسلطين الطغاة، ومستودعات الأسلحة، وأن الثورات هي في الأهراء الفارغة، وبطون الجياع.. هل قسوت؟! هل تنكَّبْتُ عن الصواب، أو عمّا صَوَّبَتْه تجاربي ومحاكماتي العقلية، في ضوء ما عايشت وشهدت وجربت؟ هل تجانَبْتُ الحق؟! والحق، فيما يرى الحكماء، في حاجة إِلى اثنين: واحد ينطق به جريئاً، ولو أغضب، وواحد يسمعُه مختاراً، ويفهمه مختاراً، ولو غَضِب! وهل قسا ذلك الحِبر الجليل (26) في ما أُثِرَ عنه من قول: « إِني متأَلم كثيراً من عيوب الكهنة، وقد صاروا مكروهين أشدَّ الكراهية.. واختاروا الزمنيات على الروحيات.. »؟! وقَالةٌ وأُخرى شاعت و ذاعت: الكهنة آكلون شاربون، عملاً صالحاً لا يعملون، ويوجبون ما لا يستحقون!! وفي عودة إِلى ماضي التاريخ أيضاً (27) إِلى ما قبل المسيحية بقرون، نقع على اسم ملك سومريّ (28) يتباهى في وصف نفسه « بأنه وهب الحرية للشعب » بإصدار قانون، هو باكورة القوانين المعروفة التي تحرِّم استغلال الأغنياء للفقراء، والكهنة للناس، وتخفض رسوم دفن الموتى إلى خُمْس ما كانت عليه.. وأن لا يدخل الكاهن إِلى حديقة الأم الفقيرة ويأخذ الخشب، وضريبة الفاكهة.. وجديرٌ بالملاحظة هذا الجمع بين الأغنياء والكهنة. فماذا تغيَّر منذ السومريين إلى اليوم، على صعيد الفقر والغنى، والدين ورجال الدين؟! تغيَّر الزمن. وتغيَّر اسم الدين من وثني إِلى سماويّ. واحتلَّ مواقع أُولئك أشخاص آخرون.. وبقيت المواقع هي المواقع.. وتعاليم الأديان كلها، سماوية وغير سماوية، لم تصقل في الانسان على امتداد الدهور غير القشرة الخارجية من حضارته.. فهل ما قلته هو حقٌّ يجب أن يُقال، مع المدلول النسبي للحق، وقد انهزم من أمام المعلم الإِلهي ذلك الذي سأله عن الحق، قبل أن يفسِّر له الحق.. وإِذا كان ما قلتُه، وقاله ويقوله الناس، نصفُه لا معنى له، فلا مندوحة عن قوله، ليتمّ النصف الآخر. أليس من الحق والحقيقة أن « يُقال للمحِقِّ صدقت، وللمُبطل كذبت » لإِقامة الحدّ النسبي بين الحق والباطل؟! هل يستطيع أن يرى الانسانُ، كلُّ إِنسانٍ، حقيقةَ نفسه في غير إِنسانيته، وهل له إِنسانية مجردة من الإِنسانية في الكون الماثلِ على نحوٍ كوني، في المادَّة والروح معاً..؟! * * * إِن أكثر الناس الذين يتعايشون في هذا المجتمع، رجال دنيا ورجال دين، يظهرون في ممارساتهم بوجهين ولسانين. وقد قيل في مأثور الحكم: « إِن ذا الوجهين واللسانين خليق أَلاَّ يكون وجيهاً عند الله.. » يذكِّرون بالله -تعالى- وبأسمائه الحسنى، وينسونه بين فجرٍ وشفق. يقولون بالدين، ولا يعنونه في أَصالته. بل يعنون به طائفية يتوسلونها للتميُّز والابتزاز والتحكم.. « إِياك أن تُري الناس أنك تخشى الله وأنت فاجر.. »! * * * إِن رجال الدين، بانتمائهم الإِيماني والديني والانساني إلى الكنيسة -المؤسَّسة- هم ملزمون بحكم هذا الانتماء نفسه أن يكونوا في مجتمع البشر والناس.. في قلبه، في أعصابه، وبين ظهرانَيْه، حضوراً فاعلاً مصلحاً، ناصراً للمظلوم على ظالمه، وللبائس على صانع بؤسِه، وللمقهور على قاهره. فليست الكنيسة هندسةً للعبادة، في حجر، إِنما هي هندسةٌ لآداب نفسانية تحمل مراعاتُها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، في ناسٍ وبشر.. وهذه هي المروءَة لارتباطها بالإنسان المَرْء، وهذه هي القداسة لارتباطها بالإله القدوس. هم ملزمون أن يكونوا فوق البشر سلوكاً، وأُحدوثةً، وعفةَ نفسً ويد، يرتفع الناس بمثَلهم إِلى مُماثلتهم.. أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، أن يمارسوا الطقوس والعبادات، أن يصلّوا ويعظوا الناس؟! هذه كلّها وظائفيَّة العبادة، تظل من الدين على السطح، وتفقد فاعليَّتها وقدسيَّتها ما لم تتجذَّر بها أَخلاقيةُ الدين في وُجدان الانسان، وضميره الديني، في نقاوةٍ وصفاء.. وهذه كلها ايضاً ممارسات مُمَظْهَرة تبقى بلا طائل ما لم تُلغِ مَظْلِمَة، وتُزِل رِقَّةَ حال، وقلةَ مالٍ في عيش الناس. ومع هذا كله، فكلمة عدلٍ هادرة أمام طاغية حاكم، وحاكم جائر هي من الدين في أَصالة. وقديماً أضاء أحد مفكري الانكليز ذلك الضوء الأحمر بقوله: « إِن كنائسكم وصلواتكم ومدارسكم هاوية إِلى الخراب لأنكم غير قادرين على ملاشاة التعاسة البشرية ومحو الفقر.. »! هذا الموقف الديني الأصيل يستدعي فكّ الارتباط بين رجال الدين أعلاهم وأدناهم، ومالكي رقاب الناس أعلاهم وأدناهم. هذا الارتباط التاريخي مدفوعون دفعاً تاريخياً إِلى فكّه، لتحرير الإِنسان، كل الانسان، في أرزاق الأرض، ومن أرزاق الأرض على السواء، ليكون هذا الانسان الذي أَعني، صورة السماء في الأرض! أَليس كل سقفٍ علا واظلَّ هو سماء؟ وكل إِنسانٍ في مِلاك سلامٍ مع ربه ونفسه ومجتمعه، هو ملاكٌ أيضاً، ليكون كل الناس ملائكة؟! لا انتفاع للناس بعقولٍ منغلقة جامدة، على واقع متحرِّك في انفجار، « فالعقول كمظلاَّت الطيارين، لا تنفعُ حتى تنفتح »، وإِلا.. فلأَصحابها الدمار، والبوار، والضياع.. فإذا صرنا نحن كما ينبغي أن نكون نحن، فهل يبقى الخوارنة ومَنْ فوقهم موضوعَ تنادرٍ وسَمَر، وحديثَ مشهورين في مسالقِ الألسنة ومزالِق السلوك؟ « ومن دعا الناسَ إلى سبِّه سبّوه بالحقِّ وبالباطل » « بالملح يُدْرَك ما تُخشى عفونته فكيف بالملح إِذ حلَّت به العُفَنُ » * * * .. وأعود إِلى عمّي.. وقد تزعزعت ثقتي بصدقه، في الجواب عن أسئلتي المستفهِمة.. وبقِيتُ إِزاءَها بلا فهم. كما بقِيَتْ في صدري نجيَّةٌ من النجايا التربوية، أَسوقها عِبرةً للآباء، والأَولياء الذين يكذِبون أطفالَهم في الإِجابة عما يسألون.كمايتكاذبون بعضُهم على بعض في مرأَى من أَطفالهم ومسمع، لئلا يتعلموا منهم الكذب الذي هو مجانبةُ الحقيقة. الكذبُ جبانة وخيانة، والصدق شجاعة وأمانة. ومصيبتنا أَننا نتكاذب مزهوّين على أَشلاءِ الحقيقةِ والحق..! موسِم العِز « بعد القزِّ عزّ ».. « الدودات تمزِّق السندات »: أَمثال سمعناها مراراَ، وتكراراً. ويفتح الآباءُ باب ذكرها، فلا يُقفل، عندما يحين الموسم المنتظر: موسم القزّ.. إِنه الأمل المرتجى لتمزيق السندات، إِنه الشعور بعزَّة النفس، وقد نقصها الدَّينُ هذه العزَّة. السندات بيِّنات خطِّيَّة فيها تواقيع المدينين، التزاماً منهم لوفاء حقوق الدائنين، بتواريخ استحقاقها، مع كل ما يترتب على الدفع وإِرجاء الدفع، من فوائد، وأعطال وأضرار. في الدَّين رِبا، أَي نموٌّ وتنامٍ. ومن جذر: (ربا: يربو) بمعنى: (نما وزاد) ترِد مشتقّاتٌ ذات دلالاتٍ حسية ومعنوية، على صعيد الأشياء والناس: ربا، رابى، أربى، ارتبى. رَبوة (بتثليث الراء)، الرابية، الرَّبْو، الرَّباوة: ما ارتفع من الأرض. رَبْو: جماعة. رِبوة: جماعة من عشرة آلاف. رَبوة: عشر كرّات (الكرة مئة ألف) : مليون. رَبا: فضل ومِنَّه. رَبا الفرسُ: انتفخ، والولد: نشأ، وفي النشوء نموّ واوتقاء. ر بَى تربَّى: الولدَ: غذَّاه ، وجعله ينمو. هذَّبه. التربية: التنمية. المربِّي: المهذِّب، المنشِيء، المنمِّي. فالدَّين، إِذن، نموّ وتنامٍ لمالِ الدائن، لرأسماله من جهة، وتراكم وتَرابٍ لفوائضه من جهة أُخرى، قد يعجز المَدين عن وفائه لسببٍ أو لآخر، فتُحجز أَملاكُه، ثابتةً أو منقولة، عبر دائرة رسمية(29) وظيفتها الهادفة نقل مِلكية المَدين إِلى الدائن، وهي في الأغلب الأعم نقل ما للفقراء إِلى الأغنياءِ. في هذا ما فيه من خوف على خسارة الملكية، وفي هذه الخسارة مذلَّة تأنف منها، وتتنَّزه عنها، وتتفاداها أخلاقية ناس تلك الأيام.. وكان بيننا، وما يزال في مرأى العين من يحترف المراباة، فيقتنص من الفائدة التي لا يحدُّها قانون، ولا يحصرها ضمير، ومن فائدةِ فائدةِ الفائدة، ما ينهض به من دركاتٍ إِلى درجات، فينتظم في مصفِّ الماليين الطغام، على مفاقر مَنْ نُهبوا، ولأواء مَن استُغلّوا، وتزداد تقواه وقداسته، بازدياد نقوده، ونفوذه، فتطول « مسبحة » صلاته بحجم نفاقه، وتتسارع رجلاه دراكاً إِلى المعبد، وتبلغ به التقوى الكاذبة مبلغ الواعظين بما تعرف وبما لا تعرف من فضائل، ومكارم أخلاق، ومحبة الله والقريب. وتنبسط كفه بسخاءٍ تفرضه طقوس العبادة وفروض العادة.. وهو مع ذلك لا يدَّخر وسعاً في تجريد هذا الَمدين من كل مايملك أو بعضه، ذهاباً مع التقوى، ومحبة القريب، و »شريعة العدل ».. وفوق هذا وهذا يدخل مملكة من يقولون: « الواوي أَكل السكَّه » فيصدِّق، ويصدِّقون.. وتتعبَّد أمامه الطريق إِلى الحكم.. أو إِلى الحاشية، أو إِلى فريق الأنصار والمحاسيب والأَتباع.. والبنك أيضاً مُحترَف مراباة. وهي هنا سرقة منظَّمة بشرع، فأصبحت حلالاً « شريفاً » في الأَخلاق السائدة التي هي أخلاق السادة المالكين المشترعين. ومن حِكَم كنفوشيوس (30) « السارقون الكبار هم الذين ينشئون المصارف ». ومن هُمُ الضحايا؟ من هم الفرائس؟! هُمُ ذَوو الفقر المصنوع! والإِعسار « المشروع »؟! وهنا لا بدَّ أن أستطرد متسائلاً: لماذا حرَّمتِ الكنيسة الربا؟! ثم أَحلَّته بعدئذٍ في حدًّ محدود؟! لعلَّ المصلحة هي علَّة التحريم والتحليل! كان التحريم في مصلحة الاقطاع الديني الكنسي، تعويقاً لتراكم رأس المال، والربا بعض هذا التراكم، وبالتالي تعويقاً لنمو الرأسمالية الناشئة، ووصولها إِلى الحكم على أنقاض الاقطاعية المتحالفة مع الكنيسة.. وعندما تحالفت الكنيسة مع الرأسمالية الحاكمة قضت المصلحة بتحليل الربا، ولكن في حدود. والحدّ الأَقصى الحلال في رأي اللاهوتيين 13/ بالمئة كل سنة.! المصلحة إذن هي جامعة الجامعات: من نسب، ولغة، ودين، ووطن، وسياسة. وتتطوَّر هذه الجامعات، مدلولاً ومضموناً في نطاق جامعة المصلحة التي هي نفع لمن تجمعهم. فهي إِذن عدالة إِذا تناولت الأَكثرية، ومظلِمَة في غير ذلك. والعدالة نِسبيةٌ ككل شيء في هذا الكون. فهل يُدرك ويعي مَن لهم مصلحة في التغيير، وبالتالي في العدالة، وهم الأَكثرية الكاثرة, أن العدالة لن تستقيم على غير أيديهم المتعاقدة للتغيير… فهل يأخذك العجب بعدئذٍ من هَمِّ الدَّين؟ وفي الأَمثال: « الدَّين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار.. » « الدَّين رِقّ، فانظر عند مَنْ تضع نفسَك »..! .. « ألأَذلاَّء ثلاثة: النمام، والكذاب، والمديان الفقير.. » إِذا أَقبل موسم القز، ولم يُمحل، يمزّق وثائق الرِّقّ، ويعيد العزّ إِلى ذوي العزّ.. فيزول همُّ الليل وذل النهار.. وفي النفس إباء وشمم! كان أبي يخاف الدَّين خوفَه من اللاقدرة على وفائه، إِذا لم تُقيل المواسم، وتستقيم موازين الأَسعار، فلا يتوافر تسديدُ الدَّين. يتحرَّز من مدّ اليد إِلى المصارف كما يتحرَّز من الدَّين موثَّقاً بتوقيع. وبحذرٍ وتقيَّة أيضاً، كان يبتاع، مضطراً حاجيات البيت وضروريات العيش من التجار بنسيئةٍ وأَخَرة، مشاهرةً، أو مسانهة، أو لآجالٍ موسمية. لا يشتري غيرَ ما يحتاج إِليه، على نحو ما يفهم انه حاجة: « من اشترى ما ليس يحتاجه باع الذي يحتاج يوماً إِليه » يفضِّل التقتير على نفسه وعائلته علىالسخاءِ عليها بدَين، ما لم يثق بقدرته على الوفاء. فهو ضنين بشرف المعاملة وآدابها.. « وإِنما الدِّين المعاملة »، حريص على حسن سمعته، وأُحدوثة الثقة به، لئلا يُنبَز بلقبٍ قبيح. فما من تاجر تعامل معه له بذمته حقٌّ لم يؤدَّ. ومن أَطاريفه الموسومة بصدق الوعد، وشرف المعامله واحدةٌ رواها لي أَحد أثرياء الحرب (31) ، وكان قد امتلك في قريتنا -زمن الحرب الأولى، وإِبّان أزمة الجوع والتجويع- بيوتاً وأراضي، بما يسدُّ فقط بُلغَة، ويُبقي على رمق. ثم أُعيدت بعد الحرب بأموال مَن اغتربوا مِن أقرباء مَن ماتوا، ومَن لم يموتوا، وذلك بوِكالة أبي. قال ثري الحرب هذا: جاءني أبوك يوماً، وقد اتفقنا مصالحةً على مبلغ معيَّن يدفعه في مقابل قطعة أَرض أُعيدها مسجَّلة باسم موكِّله.. وعندما عددت المبلغ، وجدته ناقصاً ليرة عثمانية ذهباً. فرفضت إِجراء التسجيل ما لم يسدِّد المبلغ كاملاً.. و أصررت.. وأصرَّ.. واعداً بمباكرتي غداةَ غدٍ، ومعه الليرة. فما استجبت لوعده، وكان يحمل بيده عصا شمسيةٍ لا قماش فيها ولا قضبان. فقال لي، خُذ هذه العصا رهينةً عندك ريثما أعود إِليك بالليرة وبسطل لبنٍ هديّة. فاستضحكتني تلك الرهينة التي لا تثَمَّن بشيء. ورضيت، على غير قناعة.. وغداة غدٍ، وقبل أن تفيق العصافير، دقَّ أبوك الباب، وافياً بما وعد، وتسلَّم الرهينة وانصرف.. وعلَّق ثريُّ الحرب: « ليست العِبرة بالعصا قيمةً، بل العِبرةُ بها رمزاً لصدق الوعد، وشرف المعاملة. » وهذا الُخلق عند الأثرياء والمرابين سيّد الأخلاق؟! هذا نموذجٌ مَثَلٌ لرجال تلك الايام.. إِنهم كانوا طِينَةً طَيِّنَة..! ومثل آخر لمناقب أولئك الرجال، ما سمعناه تواتراً، خلفاً عن سلف، أَنهم كانوا يداينون في خلاءٍ بالمسارَّة، فيقرض بعضهم بعضاً، بمنأى عن عين رقببٍ أو شاهد، ووثيقة الدَّين عندهم هي الضمير، الضمير الديني الحيّ.. معزَّزاً بالشرف، على نحو ما كانوا يفهمون معنى الشرف. فالشوارب، فيما تواضعوا عليه، رمز الشرف والرجولة، وإِحفاؤها تخلٍّ عن الشرف والرجولة، والإِمساكُ بها، في الوعد والوعيد، التزام لصدق الوعد والوعيد. إِذا نعتوا رجلاً بلا رجولة، وبلا شرف، قالوا: (ما في شوارب بِوُجُو) وإِذا أرادوا إذلاله، قالوا: (بنكنّس بشواربو الأرض) أي بأعزِّ ما لديه. ومسحُ الرجل شواربَه بالأنامل، وفتلَها حركةٌ عفوية يوحي بها شعور بالطرمذة والتنفُّج والعُنجُهية والانتفاش والادِّعاء بما عنده، وما ليس عندَه، وهي عادة لبنانية عربية. « والكأس عادت كأس موتٍ ينتشي زاهي الشباب بها ويمسَحُ شاربا(32)« وللّحية ما للشوارب من « قيمة » و يُسَبُّ الرجل بلحيته كما يُسَبُّ بشواربه، بما قلَّ وكثر من بذيء الألفاظ والمعاني.. فهل ترى -يا رعاك الله- في ما فقدناه من شوارب ولحى، ما فقدناه من شرف، وبيننا من ذوي اللحى والشوارب، في هذه الأيام، من يتَّصفون بشتَّى الصفات سوى صِفة الشرف وفضيلة التزام الشرف.. فهل تشبه الليلةُ البارحه؟ إِن في الرجال بقايا، كما في الزوايا خبايا..! * * * كان أبي « يمدُّ بساطه على قدِّ رجليه » وساعاته أَعاجيب عمل. قد تترصَّد الفاقةُ بابَه، ولكنها لا تجرؤ على اقتحامه، لأنها لا تجرؤ على اقتحام باب الرجل العامِل الدرِب النشيط. الإِعسار عنده بديلُ الدين.. يكافح ويشقى في كفاحه. وكثيراً ما يردِّد: « صبري على حالي ولا صبر الناس عليّ.. » والتشبث بالأرض حفاظاً عليها أياً كان مقدار الريع بديلُ التخلي عنها بيعاً، أَو رهناً.. أليس الثراء من الثرى؟ و »قُفَّة شروش ولا قُفَّة قروش » هو ابن الأرض، وهي هو، بلحمه وعظمه، وأَعصابه ورمقه، هو ابن هذه الصخور التي لا تسدُّ الطريق إِلا أَمام الخاملين.. ولكن. « الرزق يسعى إِلى مَن ليس يطلبه وطالب الرزق يسعى وهو محروم » الشجَرة الذهب موسم القزّ ملك المواسم، أو هكذا كان. فقد عرفتَ من شأنه ما عرفت. يكفي أَنه مجلبةُ عزّ، وممحاة دَين. وشجرة التوت قِوام هذا الموسم، هي ذهب أَخضر، عميم منافع، وجمَّاع خيرات (33) . أَوراقُها الخُضر المفلَّجة الاًطراف غذاء الدودة في الربيع، والنابتةُ ثانيةً طعامُ الحيوانات في تشرين: حيوانات الحراثةِ كالأبقار، والدواجن كالدواب والغنم والماعز، وجميعُها مالٌ ناطق في حياة الفلاحين، في حضارة مجتمع الزراعة. وكنا نقول: « فلان يُتَشْرِن أَبقاره، أَي يطعمها ورق التوت الخالِف في تشرين. قضبانها، وما تشذَّب من فروعها وَقود. وقشور قضبانها أَربطة تُحزَم بها أَبابيل الزرع. و « الجزَّة » أَي ما يُبقيه الدود من حُفالة طعامه يخلط بالتبن علفاً. جِذعُها وُصلَة للسقف، ومسماك للكرم. يُصنع نيراًً، ودكَراً (34) للصند وشنَداً للظهر. هذه الشجرة وحدها كانت ثروة قائمة. القرية جنائن توت. في الضواحي، وحول البيوت، في الأحادير والمخارم والسفوح والرجوم، يطالعك اخضرار المنى، ووارف الظلال. ذكرياتي في أفيائها طفلاً لعوباً، والكتاب رفيقي صبيّا، وقطف « الشماميل » من فروعها وأَعبابها خاليةً شاهية لن تمحوها كهولة العمر، وهرم الشيخوخة. وبيوتنا القديمة! أَليست مصمَّمة على طرازٍ من السعة والانفساح بملحظ ما تقتضيه تربية تلك الدودة الذهبية على أَوراق الذهب الأخضر؟ العائلة كلها، كبيرها وصغيرها في ورشة عمل لا يحتمل تراخياً ولا كسلا. من بواكير العمل إعداد الأطباق مصنوعة مما نجمِّع من زِبل الأبقار، نعجنه بالأيدي لزجاً، بلا قَرَفٍ أَو استقذار، فنشكِّله طبقاً طبقاً على نحوٍ أُسطواني يَحُفُّ به إِطار ناتىء، وبُجَفَّف في الشمس بانتظار الموسم. ثم يُضَبُّ على هذه الأطباق في مِشقاع، إِلى الموسم القابل. وقد تحاك الأطباق من قضبان الآس ومقدود القصب بأيدٍ محترفة.. ومن أمثالنا في الكناية عمن يتشبث بشيءٍ خوفَ فقدانه، أو خشيةَ السقوط، وهو عميّ القلب عن تدارك ذلك: « مثل البسين الأعمى بالمشقاع » إِنما يعنون هذه الأَطباق المشقوعة بترا تب، فحالما يقفز إِليها هرٌّ أَعمى ويُنشب فيها براثنه يثبت بلا حراك خوف الوقوع، ولا سبيل له غير ذلك لأَنه أعمى.. ويحين أَوان نصب السّدَّة، وهي ذات بانيتَين من جذوعٍ عامدةٍ إِلى السقف تُشَدُّ إليها، بقشور قضبان التوت، قصبات معترضات في تراتب، وتفاريج مقدورة تُصَفُّ عليها أَطباق الدود. الدّودة الذهب لهذه الحشرة الذهبية تاريخ قديم قدامةَ شجرة التوت التي هي طعامُها، ولبنان حديث العهد بها. نشأت في الصين، في زمن لم يعرفه تاريخ.. تربو وتتناسل على الشجرة كأيِّ حشرةٍ في الطبيعة، ولكن في مواسم ثلاثة.. واستُعمل لعابُها، أَوَّلَ ما استُعمل، أَوتارَ آلةٍ موسيقية لأَحد الملوك (35) ثم تولَّىالإِنسان الصيني تربيتها. فحلَّ فيالجها حريراً ونسجه ملابس للملكات والملوك. ورفع الصينيون مقام الملكة التي اكتشفت تربيتها إِلى مصافّ الإِلهات، وجعلوا لها عيداً سنوياً: عيدَ المربية الاولى لدودة الحرير. وأحاطوا هذه الحشرة الصغيرة بالعناية والرعاية. وعلى غرار سور مدينتهم العظيم، أَحاطوها بسورٍ من المنع والتحريم والعِقاب، منع تهريبها إِلى ما وراء حدود السور وعقاب من يجرؤ على هذا الإِثم. فجلب تجار فينيقية حريرها، ونسجوه، ولكنهم لم يتمكنوا من جلب صانعه. وظلت في سجنها الصيني زهاءَ أَلفي سنة، حتى تسلَّلت إِلى سجنها الثاني، بلاد فارس والهند. فأَفرج عنها راهبان ذهبا من الآستانه بأمرٍ من يوستينيانوس (36) وفي عَصَوَيْهما بعضٌ من بذورها المسروقة -بلا إِثم، هذه المرة- فربَّاها السوريون على ورقِ ما غرسوا من توت. واحتكر يوستينيانوس الحرير، فانحصرت صناعته، واتسعت زمن بني أُميَّة والعباس، وامتدَّت منتشرةً إِلى اسبانية وصقلية، ثم إِلى فرنسة. وفي القرن الخامس عشر كانت فرنسة سوقاً رائجة للحرير اللبناني.. وينتحر هذا الحرير، على نحو بطيء، في بلد « انتدابها » (37) بفعل ما يمثِّل تجارها من سلطة الحكم والتحكم لجني الأرباح.. وفق قانون القوة المتحكمة باستثمار الضعفاء..! هذه الدودة ليست في مقياس الحجم شيئاً ملء العين. إِنها كبزرة التين هَنةٌ ضئيلة لا ترحمها قدم مار، ولا يعفُّ عنها فم هرٍّ أو فار، ولكنَّها في مقياس القيمة أَبراد الملوك وأَردية السلاطين وثروة البزَّازين ومورد عيش العاملين ومجلبة عِزّ للمَدينين. والقَزُّ هو المُجاجة، أو اللعاب، تمجّه الدودة مادةً لزجة تجفّ حالما ترى الهواء فتُحيلها خيوطَ حرير، تحوكها لفّاً حول نفسها في فيلجةٍ تكون لها قبراً تضمُّ فيها بعضَها على بعض، سحابةَ أيام عشرة، لتنبعث منها انسلاخاً فراشة بيضاء تطير بجناحين يخفقان باستمرار، في شهوةٍ إِلى التزاوج. المربّون يخنِّقونها في الشمس، لتموت في الفيلجة بعد عشرة أيام. والبزَّارون يتعهَّدون الفراشات على خرائطَ بيضاء، فتُلقي الاناث بيوضها بعد التحامها بالذكور ذَنَباً الى ذنَب.. ويموت الجميع.. سنّةُ الطبيعة في حفظ النسل، وبقاء النوع: نباتاً وحشرات، ناساً وحيوانات. وتُعلَّب هذه البيوض، أَو تكيَّس. والكمية في العلب والأكياس توزن بالدرهم فيبتاعُ كلُّ مربّ ما وسعته القدرة أن يربي: درهماً أو درهمين، أو أكثر، علبة أو علبتين، أو أكثر.. كنا نشتري هذه البزور مجلوبة من الخارج، أو من بزَّارين محليين (38) . ولا أَذكر اننا استطعنا أن نربِّي ما يزيد على علبتين، لأن ليس لنا من شجر التوت ما يفي بأكثر. ومن طريف ما يُروى من أَفاكيه، أَنَّ فلاحاً معتَّراً من أَبناء قريتي لم يكن له من الشرانق غيرُ عشر أُقات وزناً، وكان عندما يسأل عما عنده يقول: « كتر خير الله، عندي وعند بيت « بو أنطون » الف أُقة ولك أن تقدِّر ما عند بيت « بو أنطون ».. فذهب مثلاً يُروى على تغطية فقر الفقير بغنى الغني، حياءً من الفقر، وحذر الشماتة. كما يكنَّى بمثل آخر له ذات المدلول على فقير ذي قمح قليل، وبيدر كبير: « كبر البيدر ولا شماتة العدى » * * * إِبَّان الموسم ستون يوماً، تتطور فيها البزرةُ=البيضة، في « مَنحَلة » ذاتِ مناخ دافىء، إِلى يرقة، فأُسروع، فدودة بحجم الاصبع، تنمَلُّ وتتحوَّى، على أَوراق طعامها. تأكل، وتنام. تفطر وتصوم. تعيش عمرها القصير، لعاقبةٍ نافعة تخلع فيها لعابها حريراً على الأجساد، وثياباً على العراة، عرفاناً لجميل من ربَّوها واعتنوا. « فدودة القزِّ ما تبنيه يهدمها وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ » تبشرهم بأوان الغزل والعطاء لحظة أَن يروا لونها ذهباً، لتمجَّ في أيديهم قِطَع الذهب. جهود محشودة، محسوبة بالساعات والدقائق صباح مساء، ليل نهار. هذا يفترع قضبان التوت مجموعة حزماً مشدودة يحملها على ظهره، أو على ظهر. وهذا يجردها خرْطاً من أَوراقها. وهذا يقشر القضبان المخروطة، فيلف القشور ربطة ربطة، والقضبان المقشورة حزمةً حزمة: هذه للوَقود، وتلك يُضَبُّ عليها لتكون أَربطة موصولة لأَبابيل الزرع آن الحصاد، بعد أن تُنقَعَ بالماء لتلين. والصغار معظم أدوارهم الخرْط والقَشر، ودور الكبار إِطعام القزِّ وجباتٍ معدودات نهاراً، أو ليلاً على ضوء سراج معلَّقٍ في السدَّة، نَيِّرٍ هنا، أو نائسٍ هناك. ويحين أَوان الشرنقة، فلنؤمن لها سُبُل الصياغة: نِبتات من اللزَّاب، وا لزّكبى، والبلّان، والقويسَة، وما شابَه، نقتلعها من منابتها في الحقول، ونحملها أَغماراً وحزماً تتحيَّز السدَّة من ثلاث جوانب.تتسلَّقها الديدان وتتشرنق، حتى لتبدو كل نبتةٍ منها رصيعةَ ذهب.. (39) هوذا نور الأمل في تلامح أمام أنظار العاملين المتعبين. هوذا أَوان القطاف، أوان الجني.. وها هي الأنامل المعروقة نصباً. المدمَّاة جَرْحاً وخَدْشاً تتغلغَلُ في الأغصان دقاقِها وغلاظها، لتسلَّ هذه المذهَّبات من مشابكها سلَّ رعاية ووقاية، فتُعَبَّأُ بعدئذٍ تجف في جواليق مدعدَعة بانتظار السماسرة.. كانت الأسعار خاضعةً صعوداً و هبوطاً، لقانون العرض والطلب، لتحكُّم التاجر مستغِلاًّ، والسمسار رابحاً! أليست هذه هي الحريَّة، في مقياس التجارة الحرَّة، والنظام الحرّ.. حريةُ أن تكون فقيراً، وجاهلاً، ومريضاً، وعارياً، باستثناء أن تكون حراً في امتلاك قوة عملك وجهد عَرقك، وثمرة تعبك! (40) ونحن الصغار كنا ننتظر بيع الموسم بالسرعة المطلوبة، لطول ما منَّينا النفس بالحصول على ما وُعدنا به، من ثوب جديد، أو حذاء جديد، أو مما حرمناه من مشتهيات، بضغط الحاجة.. أو بقصد التوفير، والتقتير « توفير القرش الأبيض لليوم الأسود » وليس ما نحتاج إِِليه، كلُّه داخلٌ في حساب اليوم الأسود، فقد يكون الأسود مرضاً، أو كارثة، أو طارئة من طوارىء الزمن الغاضب.. ما هَمَّ أن يكون الثوب مرقوعاً، والحذاء ضاحكاً من فَوق، أو من تحت والبطن في امتلاء؟! وأياً ما كان، فالموسم مقبلاًً، غِسْلُ هموم، وتطيابة قلب، ومجلبه سعادة.. ف « القزّ عزّ »، و »الدودات تمزّق السندات » و « لا يمزِّق الورق غير الورق »… إِلى بَسبينا(41) يا صَبي..! كان والدي جادّاً كل الجدِّ في تعليمي.. ولكن بأقلِّ ما يمكن احتماله من عبء مال. فالمال السائل لديه موقوف على المأكول والملبوس قبل تشريف النفوس. وقبض الكف في غالب الأحيان أَولى بمغالبة الزمان..! ذات عشيةٍ قال لي: »استعدّ غداً باكراً للذهاب إِلى « بسبينا » لتأخذ درساً على القس « ابراهيم ». وباكراً حملت كتبي في « مِخلاة » ومعي زادي مما تيسَّر: قُبضة من مطبوخ تين بدبس، وبصلة، وزيتون مكبوس، وبضعة أَرغفة، وأحياناً ما يكون بيضةً مقليةً بالزيت مع شوابير مقلية من البطاطا، وأَحرار البقول. سرت أَتدكدك انحداراً في عقبة وادي « عينشاره » في سفح الأكمة الرابضة عليها قريتي، وأَتوقَّل صُعُداً في عقبة « بسبينا » المقابلة.. إِلى الحارة، حارة بيت البيطار، حيث يسكن القس ابراهيم. و »عينشاره »، وهي في الحضيض بين العقبتين، خيطُ ماءٍ ينبجس مما فوقه من شاهق أرض، وصخور. ولعلَّ اسمها ينظر إلى هذه الصخور (42) . والشرب من هذا الماء يَسِم شاربَه بالكذب. وقد سمعتهم يعلِّلون كذب هذا الكذوب أَو ذاك ب »شارب من ميّة عينشناره »!! ولست أَدري لذلك سبباً. فأنا كثيراً ما ارتويت من هذه الُموَيهة العذبة تلميذاً، رائحاً غادياً إِلى « بسبينا »، وفلاحاً، وحطاباً في سفح ذلك الوادي، وما كذَبت بالأمسِ، وما أكذب اليوم. فهل اشتهر أَهالي بسبينا بالكذب، وهم يستقون من هذا الماء، حتى ذهب ذلك مثلاً؟! قد يكونون تكاذبوا منجاةً من دواهيَ تعرضوا لها في تلك المزرعة. أَليس تكاذب الناس بعضهم على بعض فاشيةً مألوفةً في الزمان والمكان.. واعتماد الصدق شذوذٌ على القاعدة؟! * * * رحَّب بي المعلم الجديد، وضمني إِليه ضِمَّة عطف وتشجيع. وظلت هذه مسيرتي اليومية، في صَحْو الطقس طوال مدَّة تعلمي. وفي الأيام المُمطرة والمُثلجة كنت أَبيت، على الرحب والسعة، في بيت رشوان أَحد اصدقاء أبي يحفّني ويرفّني كأني واحد من أفراد العائلة. بيت رشوان له عندي صنيعة فضل. فصداقته لأبي علَّمتني معنى الصداقة. أَليست الصداقة من الصِّدق الذي هو نفي الكذب، والذي ينأى بالصديق عن النفاق والرياء في معاملة من يصادق، فيرى لصديقه مثل ما يرى لنفسه؟! ما شعرت مرةً أَني ضيف ثقيل في ذلك البيت. (فالضيف يكون ذَهَباً.. ثم فِضة.. ثم.. حديداً) (43) . فهو حديد إذا أَطال مكثه. وكان يطول مكثي، إِذ تغدو دِقُ السماء أُسبوعاً أو أكثر، وأبقى ذهَباً.. فهم اليوم، وإِن غيِّبوا، ممن يزكو لهم شكري.. لندرة مثلهم أَصدقاء. أقول فيهم ما أقول، ويدي تجري بضميري، ولا أَعجب.. فهم فلاحون بسطاء، شركاء، والطيبة تغلب في مثل هؤلاء.. * * * القُسّ ابرهيم خادم كنيسة تلك المزرعة، من قبل مالكيها، أو مغتصبيها الإِقطاعيين مشايخ آل البيطار. رجل فارع القامة، مهيب الطِّلعة، خفيف الروح، أَجشّ الصوت، مليء الجسم، عَبْل الساعدين. يمشي على الأرض كأنه يقول: « يا أرض اشتدّي ما حدا قدّي » تتدلَّى على صدره لحية طويلة عريضة، كأنها مكنسة بيدر من بيادر بسبينا! وتطويلُ اللحية وإِسبالُهنا مرجَّلةً بين الترقوة والصدر، وتمسيدُها، آناً تتخلَّلها الأنامل، وآناً تنظر إِليها العين، علامة من علائم المهابة والوقار في رجال كهنوت ذلك الزمان. لها حرمة لا تُمسّ بيدٍ أو بكلام شفة، كأنها حاكورة تقوى وفضيلة، إِذا سقطت منها شعرة فلا حَول ولا طَول..! ومع ذلك.. يُسبُّون بها، كما يُسبُّ الناس بأَعراضهم، والعِرض في مواضعاتهم دمويّ المشاجر. وكلماتُ الشفاه النابزة سمعتُها مراراً مقذوفةً على اللحى، احتجاجاً أو انتقاماً أو بِغضة! كيف هذا؟! فأنا مدعوّ أن أكون من ذويها غداة يوم!! و »مبخرة » القس ابرهيم ذائعة الصيت! و »الناس يكذبون يا بنتي.. »! تعلَّمت على القُسّ ابرهيم. وإِذا صَدَقْتُ نفسي لا أستطيع أن أذكر ما تعلمت، فليس لهذا المعلم في واعيتي أي باقيةٍ من خيرٍ أو شرّ. غير أن « بسبينا » في تلك الأيام، كان لها في خاطري بليغ أثر. ربما سببُه أن عائلة أمي هي إِحدى العائلات المهجَّرة من منبسط تلك الأرض. وكان الناس ممَّن يَعتبرون أنفسهم « أُصلاء » في أرض قريتي يتسامعون « بالبسابنة » فيقولون: هذا من « بسبينا » و »ابن بسبينا » وينسبون إِلى هؤلاء صفات كأنها من طباعهم. هل هم لاجئون؟ والدتي منهم. وجدتي لأبي منهم، وخال أبي كاهن منهم خدم مدينة البترون، وعرف بالخوري يوسف « بسبينا » وبيته في المدينة معروف..! نعم! إِنهم لاجئون، مهجَّرون، مطرودون من أرضهم. وظُلامتهم تنسلك في مجموعة ظُلامات ارتكبها حكام ذلك العصر، أو المتنفدون من أتباعهم، وحاشيتهم.. كما ترتكب اليوم في البلد « الُمشِعّ »! فقد استولوا بالمساحة الجبرية على ملكياتٍ ليست لهم، واستأكلوا الضعفاء، مالاً وأرضاً. فامتلك أصحاب الاقطاع معظم الأراضي الزراعية في جبل لبنان، تلك الزَّمَنَة من التاريخ (44) .! وكان تصدِّي الأهالي لهذه المظلمة مهجرةً لهم من أرضهم، فوجدوا أنفسهم بلا أرض، والمصير المحتوم بين شفتي الحاكم والمتنفِّذ، ويدُه فوق كل يدٍ إِلا يدَ الله: « وما من يدٍ إِلا يدُ الله فوقها وما ظالم إلا سيُبلى بأَظلمِ » وتوزَّع المهجَّرون البسابنة طُرُقاً، في قرى اجدبره، كفيفان، كلباتا، البترون، (45) وبلدان الاغتراب، دونما خَلَفٍ عن تَلَف. وحدث أن زوجة أحدهم صفعت أجير الشيخ، فخاف الزوج من سوء العاقبة، مع ما لضربة كفّه من شهرة وذيوع، فهجر مع عائلته إلى قرية بتوراتيج في الكورة وسكن في كنَف مشايخ آل الحسن. وروى لي أحد شيوخ تلك المزرعة، فيما روى وقد عايش المأساة، أنَّ المطران يوسف فريفر لم يكن مع قُوَّة الحق، بل كان مع حق القُوَّة. « كان نصيراً علينا ولم يكن نصيراً لنا »، كما تقتضي الرسالة، ويوجب العدل. ولعل ذلك ما يمليه تحالف الإِقطاع الديني والسياسي في كل زمان ومكان. لقد أحرق بنو حماده تلك المزرعة مرتين (46) وكان الشيخ يعقوب البيطار من ذوي النفوذ الإِقطاعي والسياسي، ففي يده مقاليد المِساحة: أي مسح الأراضي وتمليكها، وتحديد هذه الملكية، وتثبيتها. والمطران فريفر من أنصاره، ومن أصدقاء آل البيطار. والقويُّ، مالاً ونفوذاً، أو سلاحاً، يغتنم الفرص المناسبة للفتك بالضعيف الأعزل، فتكَ قتلٍ ، أو فتكَ سلبٍ وابتزاز. فجاء الشيخ يعقوب البيطار يعرض على الأهالي حمايتهم من اعتداء بني حماده، واشترط أن يؤمنوا له ما يحتاج إِليه حصانه من شعير، وما يستهلك غليونه من تَبغ.. فقبلوا شرطه. وبعدئذٍ تزيَّد في طمعه، قاتَلَ الله الطمع- وأراد الاستيلاء على رُبع ما تُغلُّه الأرض بجهد أصحابها.. فرفضوا. وذهب وفد منهم إِلى « إِهدن »، عارضاً الأمر على القاضي « الخوري جرجس الدويهي »، فقضى لهم ببطلان ما يطلب الشيخ. كيف السبيل إِلى الآستانة، وكلمة المطران فريفر كلمة « جُهينة » تقطع كل قول، بحق، أو بغير حق. والمقهور الذي تُسَدُّ أمامه سُبُل الوصول إِلى حاكم في الجبل، نصفه محجوب، ونصفه نائم، طريقه إِلى « اسطنبول » مستحيل رابع.. والمتصرفون الولاة راشون، مرتشون، والحاشية، لعن الله الحاشية- تتحكَّم وتبتزّ في مقابل ما يستجعلون لأنفسهم وللسلطان. الأمر إِذن بين شفتي المطران وماذا كان هذا الأمر الخطير؟! دخل سيادته القرية على حصانه، وجمع الكهنة والأَهالي وهدَّدهم بعنفٍ قائلاً: « مَنْ يقول منكم، لُو ملك في بسبينا بغَرِّق شواربو بالدم.. » وواجَهَ الخوري يوسف منعم، المشهور بالخوري يوسف بسبينا سيادة المطران، واضعاً بين يديه المقدستين صكَّ ملكيَّة الأَهالي لتلك الأَرض منذ مئة وخمسين سنة. فما كان من يعقوب البيطار إِلا أن مزَّق الصكَّ بوجهه. ويُروى عن لسان الخوري، أن المطران هو الذي مزَّقَه، ليُفقد الأَهالي حجة المطالبة بحقٍّ مغتصَب مسلوب بتواطؤ الشيخ، والحاكم، والمطران. واقتحمت دولة المتصرف بعساكرها القرية، واقتادت رجالها إِلى السجن، وبعد قليل زمن هجر النساء والأَطفال، بما يملكون من ناطقِ مالٍ، ومتاع، تاركين بيوتهم الأَربعة عشر وأرضهم نَهَباً مملَّكاً للإقطاع (47) . وجميع هؤلاء من عائلة « منعم » (48) * * * جاءَ هؤلاء « المناعمة » من قرية « غلبون » (49) إِلى « بسبينا » وتملَّكوها. وباعوا مصاغ نسائهم في جبيل واشتروا بثمنه جذوعاً من أشجار « جاج » « وُصلاتٍ » نقلوها على ظهور الجمال، وسقفوا بها بيوتهم، وسكنوا. واشترى أَحدهم أَرضاً في « رامات » فاستولى عليها رئيس دير كفيفان بمؤازرة يعقوب البيطار فهجرها إِلى بسبينا.. ثم كانت الهجرة الجماعية المشؤومة.. أَما مصير الخوري الذي واجه المطران دفاعا عن الحق، فهو منعُه من ممارسة واجباته الكهنوتية في كنيسة البترون مدة سنتين، فاضطُرَّ أَن يجتاز نهر الجوز راجلاً كل يوم إِلى قرية كبَّا، لممارسة واجباته في كنيسة مار يعقوب.. وقد كان لي في الحمسينات نفس المصير بسبب مثل هذه المواقف (50) ! * * * لست أدري، ماذا كان رأي الخوري في سيّده المطران آنذاك! أغلب الظن أنه عزَّى نفسه بقول ابن الوردي: « جانِبِ السلطانَ واحذر بطشه لا تعاند مَنْ إِذا قال فعل » وأغلب الظن أَيضاً أَنه لا يعرف من هذه القصيدة بيتاً آخر، أُسقِط منها عمداً (51) ليتغنَّى به ويحتج ويتمرَّد: « أًنا لا أَختار تقبيل يدٍ قطعُها أَفضل من تلك القُبَل » وأَغلب الظن أَيضاً وأَيضاً أَنه أقنع أَقاربه بالعضّ على جراحهم والاستكانة لنكبتهم، بكلام السيد المسيح له المجد: « اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم ». ولكن الأرض تراث آبائهم، وحشاشة أنفسهم، لم يُعدها إِليهم كلام تعزية، ولو هتفت به شفة الله، والملائكة.. وظلت عقدة القهر والتهجير، وعقدة العودة إِلى بسبينا فاعلةً متفاعلةً في نفوس الجيل الذي هُجِّر، وفي خالِفيه.. والمنعميُّ الكبير (52) الذي له في ذكرياتي ما نشرُه طيِّبٌ عاطر، كما له في قلبي ما لا تحيط به الحروف والكلمات.. كان في نفس هذا الإِنسان العِصامي ما تعرف وما لا تعرف من نوازع الحنين إِلى ذلك التراب المجبول بعرق الجدود. فعندما عمَّد ابن أخيه « منعم » في كنيسة مار اسطفان في بسبينا طرِب وتغنَّى وزجَل: « عاش الجد ومنعم عاد وتعمَّد في بسبينا » وكيرللوس ابرهيم المهجَّر، والمهاجر معاً، عاد إلى الوطن الكبير، وفي جيبه حصيلةُ ما وفَّر من أَجر عمل، وقدكان في مغتربه آنذاك جوَّاباً يحمل الكشَّة شأن الكثير من أَمثاله. فضَّل أن يستردَّ بالشراء ما تيسَّر من تراب وطنه الصغير وإِن كان لا يُغني، على أَن يشتريَ ما فيه الغنى من تراب آخر، ولو في الغدِ المنظور: « ولي وطن آليت أَلاَّ أَبيعَه وأَلاَّ أَرى غيري له الدهرَ مالكا » * * * وطوى الزمان ما طوى ، ونشَر ما نشَر، وما يزال فيما يطوي وينشر مظالمُ مماثلة، هي بعض معطيات البُنية السياسية المختلَّة في تاريخ هذا الوطن.. ثورة الرفض كان لنا موسم من لعاب القزّ، هو الحرير، فتخطَّفه حرير آخر من لُعاب النبات. فعايشنا لعبة الصراع مع الأرض، ومأساة المغالبة مع وحوش التناهب الدولي في امتداده المنظَّم لوحوش الغاب. كان علينا أن ندفع صاغرين، للسلطان، كل سنة، اثني عشر ألف شلن (53) في ميقات محدَّد، قبل موسم القَزّ بأشهر.. وكان علينا بسبب ذلك أن نبيع هذا الموسم للتجار والسماسرة (54) بنصف ثمنه قبل أوانه لندفع مال السلطان بأَوانه. « ومن عهد عبد الحميد إِلى عهد عبيد البعل هل تغيَّرنا؟.. انتقلنا الى دائرة الاستثمارات الانتدابية. من الباب العالي المشرف على مرمره الى الباب العالي ودونه « مرمرات ». من عهد عبد الحميد الى عهد دي مارتل (55) . من خازوق واحد قائم تحت الشمس، إِلى خوازيق تنجِّرها الليالي. إِلى رؤساء وحكام يأكلون الطعم، ويبولون على الصنَّارة. جارك القريب خير من أخيك البعيد.. خير من امك « الحنون » البعيدة (56)« . موسم الذهب بار، فاقتلعنا حدائق التوت لنغرس في منابتها أَنابيش التَّبغ، حتى الرجومُ المخضوضرة انهزمت أمام الأيدي المستأصِلة لكل ما يتسرب إلى تربة التبغ من شروش الشجر. هذه النبتةُ السامَّة.. وضحاياها من البشر، موتاً قبل الأوان، وبأمراضٍ، أخطرها السرطان، روَّجها تاجر « وقلما يتخلص تاجر من إِثم (57) « . أما مكتشفها فأسبانيّ في جزيرة تاباكو (58) ، وأهداها يوحنا نيكوت (59) إِلى الملكةكاترين دي مدسيس فسمّيت بحشيشة الملكة. ونحن العرب لم نعرف هذه النبتة، ولا عرفها العالم القديم. هي من مجلوبات « العالم الجديد » إِلى أُوروبة، في أواسط القرن السادس عشر. و أوَّل من دخَّن هذه النبتة السامَّة لفًّا، وأخرج الدخان من فيه وانفه قِيدَ إِِلى السجن، لأنَّ امرأته ادَّعت عليه أَنه آتٍ من « العالم الجديد » وفيه شيطان، أَي « مسكون » بأرواحٍ شريرة.. كنا في هذا العالم الاسيوي القديم ندخِّن « رِجْلَ المهر »، وأَقدم آلة تدخين هي الغليون أَو الشُّبُق، ولعلَّ فيه محاكاةً لعودٍ يخرج من طرفه دخان، وهو أَوَّل ما لحظه الإِنسان من أمر التدخين. * * * وكان لنا هذا الموسم.. وكان علينا أن نغرسَ السُّموم، ونتاجر بها، فسبيل عيشنا يمرّ بين الأثلام المكثَّفة بأوراق النبت القديم الجديد. تبدَّل مورد العيش، ولم يتبدَّل الاتِّجار بالأَعراق في أسواق المرابح، والقبائح. من نظام البندرول إِلى نظام المونوبول. واليوم كالأمس في لعبة الصراع. اليدُ على الدفَّة يدُهم، ولا نملك غير الصراخ. ولمن نصرخ؟ أَإِلى الخصم والحكم؟! * * * لموسم الحرير شهرا عمل. وموسم التَّبغ يسترِقُّ الأيديَ والأرجل العامَ كلَّه. والأجر مسلوب والرزق منهوب: « فما حديقتُنا يُجنى لها ثَمرٌ وما سماؤهم تنهَلُّ بالمطرِ » هذه النِّبتة الآكلة ساعات الراحة، ما لها لا تكافىء غارسيها ببعض الراحة في وَفرٍ يُجمع لنَعمةٍ ولو قليلة؟! وما بالنا لا نقطِّع السلاسل قبل أن نغرق في الماء.. موسم بار، وامَّحت آثاره في الأرض والمنازل. وموسم بديل شغل الأرض والمنازل والرجوم. وجميع أفراد العائلات في قطاف وشكّ، وتنضيد لتيبيسِ الأوراق. نبسِّطها مرزَّمة. نهيُك عن الغرس والسقي، وتدميل الأرض، ومتح المياه، وحفر الرَّكايا. ورشة عمل موصولة الليل بالنهار. وعقبى التعب خيرٌ مؤمَّل من بضاعة تتحوَّل إِلى نقد، ونقد يتحوَّل إِلى بضاعة، بين تاجرٍ وسمسار، وبائع وشارٍ. وفي ذات اليدين حاصلُ العمل حُصالةٌ أو حُثالة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تستقيم بها الحاجات! ومع ذلك، نحن صُبُرٌ نمارس العيش في حُطام العيش، وفي نفوسنا رفض الواقع المفروض. وفي قلوبنا ثورة المقهورين. وندير لحاظنا في أي اتجاه. ونتطلَّع في أَمل، كلما أقبل مفوض سامٍ، وأدبر آخر، ونعلِّل النفوس بوعود التغيير، فتأتي وعيداً جديداً، وبسياسةٍ تلين، فتقسو وتتصلَّب! واجهنا احتكار المورد من سلطة الانتداب في إِطار شروط تبتزّ الربح لرأسمالٍ وافدٍ، في شركة أجنبية، رافدٍ للشركاءِ ومن لفَّ لفَّهم. ونخرج من المعبد يوم الأحد ، ويوم العيد، بعد القداس، ونتطارح الآراء، في ظل سنديانة، أو زيتونة: أو في ظلال جدران المعبد، أو في أحد البيوت، ونرسل عرائض الاحتجاج، ونؤلف الوفود. وعند غيرنا مثل ما عندنا في كل قرية، ومزرعة (60) ! وتنفجر الصرخات في حناجر الرافضين -وكلنا رافضون- وتتكاثف وفود الاحتجاج وتتلاقى، وتتآحد، لتندفع في هدير صاخب.. إِلى أين؟! إِلى بكركي.. وسيِّدها البطريرك أنطون عريضه، آنذاك، رحى المعركة، وقطب الدائرة في ذلك الصراع. فارتجت دولة الانتداب -أُمنا الحنون- وسيدها الحاكم المستبد ديمارتيل. « ومن عهد عبد الحميد إِلى عهد ديمارتيل هل تقدَّمنا؟ هل تحسَّن حال من أحوالنا » (61) ؟ انفتحت أبواب الصرح البطريركي على مصاريعها أمام الزحف الشعبي العارم من البلدين التوأمين: لبنان وسورية. ووقف غبطته وِقفة الرجل البطل، ليُعلن بملء فيه وملء حنوّه، مطالبة فرنسة باحترام العهد الذي قطعته على نفسها « بأن تترك إِدارة لبنان في السياسة والاقتصاد والقضاء والتعليم بيد أبنائه، وما يبتغيه لبنان لنفسه يبتغي مثله لشقيقته سورية ». كان بين الوفد السوري فخري البارودي، وجميل مردم، والشيشكلي النائب، وشاعر اللاذقية نوفل الياس. وقد أثار إِعجابي موقف البارودي، كما أثار حماستي، فلم أملك نفسي أن حييته بقصيدة إِثر نفيه عن الشام إِلى القامشلي بسبب المظاهرات في الشام وحلب وحمص، وهذه بعض أبياتها: هذاذَيك يا مَن يزحف الشعب خلفه إلى ثورةٍ تحدو البلادَ إلى النصر فتىً يحسب الإِقدام مجداً لشعبه كما يحسب الإِحجام ضرباً من الغدر فسرْ غيرهيَّاب، فليس بعائبٍ على المرء أن ينفى فدى بلدٍ حُرِّ وثق أنَّ سوريا ولبنان في الأسى شريكان في البلوى شريكان في النصرِ وفي ذهني بعض ما جادت به القرائحُ في ذلك المهرجان الشعبي. ولكن هذه القرائح لم تطعن بمشروع الاحتكار ومضارّه، بل اقتصرت على مدح البطريرك وعلى ما للصرح البطريركي من مواقف الدفاع عن قضاياالشعب. فعندما لفظ الشاعر نزيه الزعني كلمة: »الاحتكار » هتفت الجماهير: « ليسقط الاحتكار.. ليسقط ».. واستهل قصيدته: « بيتان للدين القويم، برومةٍ بيتٌ وهذا الصرح بيتٌ ثانِ » وكان بين الشعراء الخوري مارون غصن، والخوري اسقف يوسف حبيقه وشاعر اللاذقية. وركب سيّد الانتداب رأسه، واحتكر المورد الحيويَّ الفريد، في مناطق عديدة من لبنان. وانصرف الخبراء يحلِّلون، ويتناقشون في مضارّ الاحتكار، ومن آرائهم آنذاك: أَن استهلاك الشعبين اللبناني والسوري من السكاير المعلَّبة في اليوم الواحد مقدارُه مليون علبة. والسعر الوسطي لكل علبة عشرة غروش: أي ما يساوي مئة الف ليرة (62) . فإذا أُخرج من هذا المبلغ أثمان المشتريات والأُجور وما أَليها من هوالك، تبقى الأرباح الصافية خمساً وسبعين ألف ليرة في اليوم الواحد. فكم تبلغ هذه الأرباح إِذن في مدى خمسٍ وعشرين سنةً، وهي مدة الامتياز الاحتكاري المشئوم؟! أَرباح تنصبُّ كلها في جيوب المحتكرين الأجانب، حين هي في نظام البندرول تعود إِلى الشعبين اللبناني والسوري، دون أَنُ نسقط من حسابنا الممارسات الابتزازية من قبل السماسرة والبيوتات التجارية بشكل او بآخر، زمن البندرول، وما قبله. أَما في مناطق البترون وجبيل والكوره فقد قال الخبراء: ان مجموع ما كانت تشتريه البيوتات التجارية من هده المناطق قُدر بمئة ألف كيلو (63) سنوياً وكان السعر الوسطي للأقة (64) من سنة 1925-1935 يراوح ما بين 32-107 غروش في منطقة البترون، و 39-105 في منطقة جبيل، و 42-118 في منطقة الكوره. وقد حرصت على تسطير هذه الأرقام لأنّي ابن فلاح زارعٍ لهذه النبتة، مكدود، مأزوم في رزقه، ثقيل الظهر، مُعيل، يستنزف العناء عافيته، ويبتز التاجر، كما يبتز الاحتكار، عرق جسده وحشاشة قلبه. وقدكان لي في جبهة الرفض مواقفُ عمل ومواقف قلم: « خلق الله للنضال رجالاً ورجالاً لقصعةٍ وثريد » وكان التحرُّك في سبيلَين: سبيل الوفود، وسبيل القلم.. والعرائض.. دونما خوفٍ من هول السلطة، وكنا في منطقة البترون فريق عملٍ نشيط من أَعضائه: لويس منعم، وشكري لحود، والشاعر الزجلي المعروف ابرهيم منصور منعم، وكلهم الآن في بطن الأرض، وقد كانوا على ظهرها يعملون. ولم تعزلني مهنة التعليم، وما أنا في سبيله من دروس لاهوتية، في مدرسة مار عبدا هرهريا، وقد وُسِمتُ فيها بسِمة الكهنوت، عن هموم المعركة، وعن الاستمرار في الرفض. ففي إِحدى العشيَّات، والليلُ في هدأَة ساجية، تراءت أمامي صنوف الظلامات في موارد العيش ومواسم الرزق، من موسم الحرير، إِلى موسم التَّبغ، إِلى ما هنا وهناك من خوالج النفس، فلملمتُ هذه المشاعر الحاقدة لتكتنز بها أَبياتٌ من الشعر غُفل.. تناقلت بعضَها أَلسنةُ الرافضين، وتناهى خبُرها إلى سيد الانتداب. بقي أَن تعرف كيف شاعت هذه الأبيات وذاعت! طُبعت على صفيحة من الجيلاتين في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير، وهي آلة يُطْبَعُ عليها ما يُخَظّ بِمدادٍ خاص، نصوصاً للتلاميذ. ولبستُ الليلَ حذِراً، في سيارة مأجورة أَدسّ هذه الأبيات في وصاويص الدكاكين على طول الشاطئ، من جونيه إِلى البترون. وكدت أُدهى بداهية لولا عاصمٌ من المدرسة، ومن سيد بكركي. فقد آزرني في طبع الأبيات واحدٌ من تلاميذي ثم نَمَّ عليّ، وسعى بي لسببٍ أَو لآخر لدى زبانية الدولة: « أَصخورٌ أَكبادكم أَم حديدُ أَيها القوم أَنصفوا أَو فحيدوا فلكم في بلادكم ما تشاؤون وفي أَرضنا لنا ما تريد إِن رهطاً من الفرنسيس جاؤوا لا ليُحيُوا أَرضنا بل ليُبيدوا كيف نرضى بحاكمٍ مستبدٍّ هو في رأيه عُتُلٌّ عنيد ولماذا الخنوع، ثوروا عليه « لا يفلُّ الحديدَ إلاَّ الحديدُ!! » * * * أَحكم نظام الاحتكار=الريجي قبضته على الاِنتاج بجهازٍ إِداري وبوليسي رهيب، يغتال حرية المزارع، فلا يجيز له استهلاكَ قُبْضَةٍ من تَبْغِه يُهرِّمها بيديه، لتستوي بين أَنامله لفافاتٍ يجذب منها نفساً في إِثر نفس، وقد ضاقت بالاحتكار أَنفاسه. فهو مُكرَهٌ على شراء ما يستهلك من تبغ، لفافاتٍ مُعَلَّبة، وإِِلا فهو.. مهرِّب، مشلِّح، واضع يده على بعض حقه، بلا حق، يُدان جزائياً، فيُحبَس، أَو يُغرَّم. وربما تبتلع الغرامة كل ثمن الانتاج. كما أَنه ملزَم بتسليم منتوجه للشركة كما استقامت مقاديره في حَدْسِ مُخَمِّنٍ مختصّ، أَو في ميزان هذا المخمِّن. فإذا نقص المقدار المخمَّن، فالزارع إِذن سارق! مهرِّب! مجرم! نعم، سارق ما يملك، سارق جهد يده المسروق الذي احتكره الغير. ولا تعجب لهذه المفارقات! أَليست السرِقة أَخذَ الشيء في خفاءٍ وحيلة؟ أَليست هي الاستراقَ في المحاسبات التجارية والاحتكارية؟ ثم، أَليس الاحتكار هو الظلم، والظلم انتقاص الحق، ومجاوزة الحدّ، ووضع الشيء في غير موضعه؟ وإِذا شئت المعاني الدائرة في مشتقات هذا الجذر اللغوي فدونك معجمها: (حَكَرَه: ظلَمَه، تنقَّصه، أَساءَ عشرته. وعن الأزهري: الحَكْر: الظلم في التنقُّص، وسوء العشرة. يحكِرُ فلان فلانا: إِذا أَدخل عليه مشقَّة ومضرَّة في معاشرته، ومعايشته. حَكِرَ به: استبدَّ به، وإِِنه حَكِرٌ لايزال يحبس سلعته، والسوقَ مادَّةً (ملأه ناساً وبضائع) حتى يبيع بالكثير من شدَّة حَكْرِه. حاكَرَه: ماراه: نازعه، ولاجَّه.. تحكَّرَ، واحتكرَ: الطعامَ: جمعه واحتبسه انتظاراً لغلائه. تحكَّرَ: تحسَّر. الحَكْر: عسرٌ والتواء، وسوء معاشرة. الحِكْر: ما يُجعل على العقارات ويُحبَس. الحَكَر: ما احتُبس من الطعام وغيره، انتظاراً لغلائه. الحَكَر: الماء القليل. وفي الحديث عن الكلاب: إِذا وردَتِ الحَكَرَ القليل فلا تَطعَمُه: أَي لا تشرَبُه. الحُكْرَة: اسم للاحتكار. الحاكورة: أَرض تُحكَر لزرع الأشجار قريبة من المنازل والدور). أَرأَيت في هذه الوحدة الاشتقاقية غير معاني: الظلم، والاستبداد، والمشقَّة، والمضرَّة، وسوء المعاشرة والمعايشة، والتحسُّر، والالتواء، مما لا يُعَدُّ من محاسن الأخلاق، والمكارم، بل من مقابحها والمَلائم. والاحتكار في دائرة الفكر، والمعرفة، والعلم، متلازم مع الاحتكار في دائر ة المرابح. وتحريم فكرٍ ما هل هو شيء آخر غيرُ حبسه واحتكاره في قمقم سلطةٍ ظلامية، حصانة لها من نورٍ كاشف، وضوءٍ فاضح؟ وهل يُحبس النور في قُمقُم؟ أَويُحتكر الشعاع في قانون مما تخترعه العقول الخرِعة في أَوج الحكم، أَكان هيرارشياً، أَو ثيوقراطياً، أَو أَريستوقراطياً، أَو ديموقراطياً، أَو بلوتوقراطياً، أَو فاشياً-نازياً، أَو ديكتاتورياً؟! هل حُبِس، واحتُكر فكر سقراط، وأَريسطو، وديدرو، وغاليله، وابن الراوندي، وشبلي شميل، وجبران، وشاردان واضرابهم وهم عددٌ بعد عدد؟! هل مات الفكر بموت صاحبه، إِما صبْراً، وإما استشهاداً على الشاهدة، أَو الخازوق، أَو الصليب؟ أَو ما شئت من أَدوات القتل والتعذيب. إِلى كم زمنٍ ظلت المعرفة محرَّماتٍ مقدسة في الهياكل والمعابد والأديار، قبل المسيحية و بعدها، محصِّنة دون عقول العامَّة من الناس، ليظلّ العمهُ في العقول، والبصائر أَيسر مركب إِلى التسلُّط؟! ما أَشفقت مرةً، في رثاءٍ ومهزلة، على أَحد، إِشفاقي على هؤلاء المحتكرين الحابسين عن الناس أَرزاقهم، وأَفكارهم، وحرياتِهم! فهم يحسبون عمرهم الزمني تاريخاً. والتاريخ أَخلاف في أَسلاف وأَجيال في أَجيال على امتداد هذا الكوكب. و ما كانوا، ولن يكونوا فيه أكبر حجماً، من وَنَمة ذبابة على حروف كلمة! فمن يحبس عن الناس حقهم في العيش الحرّ الهنيء يحبس عنهم حقهم في التفكير الحرّ، والمعرفة، والعلم لتظلّ هذه الهويَّة الإِنسانية مرتهنة لسياسة الطغمة الحاكمة، وهذه الكمية العفنة في دنيا الناس. فما عرفت فكراً مضطهَداً، خلال التاريخ إِلا وهو على تناقض مع مصلحة الحاكم على اختلاف أَنظمة الحكم. وما عرفت اضطهاد مثقف أو عالم وضع ثقافته وعلمه، لسانه وقلمه، في خدمة ذي سلطة. والحصانة لذي سلطة ولو لزمن، يطول ويقصر إِنما مأتاتها من فكر يُحبس في سياق هذه السلطة، لينصبَّ في أَقنية مصنوعة صنع الحق المتسلِّط الذي يغدو باطلاً متصارعاً مع الحق البازغ. وعلى هذه التخوم التاريخية يصبح الحوار الفكري والسياسي في رصاصة مسدَّس، ووثيقةُ الآدميَّة، التي هي الكلمةُ الصائبة المضيئة، لا المسدَّس القاتل، تتهافت مِزَقاً على أقدام وحوش البشر.. وتصبح الحياة بلا اعتبار لأن الحوار الذي يقوِّمها ويسدِّد اتجاهها أَصبح هو نفسه، بلا اعتبار! ألا ترى أن الفاشية أو النازية إنما نشأت من كون الديموقراطية في الفكر والحرية والسياسة فقدت دورها في حصانة الطغة المتميزة في مرابحها وأطماعها وموارد ابتزازها، وهي لا تعدو عدّاً أصابع القدمين؟ بقي أن تعرف مصير الفاشية والنازية في التاريخ قريبِه وبعيدِه.. يحتكر السادة الأَعلَون الفكر، فلا فكر إِلا « فكرهم »، ولا وطنيَّة إلا « وطنيَّتهم »، ولا سياسة إِلا « سياستهم »، ولا حريَّة إِلا « حريَّتهم ». والفكر والوطنية والسياسة والحرية أرقام محسوبة في الجيوب والأكياس والمصارف، بلا غبنٍ ولا غرر..! والخوارج عليهم – وهم اليوم في رصيد حساباتهم مجرمون- لن يكونوا غداً في تاريخ الإِنسان غيرَ مصلحين أنبياء، يدخلون التاريخ من أمام، فيما يدخلونه هم من وراء، ويخلدون نماذج من بشريةٍ تافهةٍ. أرأيت أن مادَّة الاحتكار لغةً، ومعانيها الدائرة على القهر والاستبداد والمضرَّة في نطاق الفكر أَيضاً ليست شيئاً آخر غير الاقتصاد والسياسة، وسيلة وغاية! * * * عايشنا، بوصفنا منتجين هذه المشقات والمضرات كلها. وناهضناها تارة بالتظلم احتجاجاً وطوراً بالإِضراب، والامتناع عن تسليم المحصول حتى يرتفع السعر.. وقاست الفئات الطليعية السجن، والاستشهاد، والارهاب، وصنوفاً مصنَّفة من الأفاعيل والأحابيل. وغالباً ماكانت تنهزم فئات محكومة بتَبعية نائب، او زعيم، او نفعي، او عميل، او بإغراء بعضٍ برفع سعر منتوجه في محاولة لجعل الزارعين تفاريقَ لينتفي كل كسب.. وقد عانينا هذا التمزُّق، بل هذا الخدَر في الوعي.. والانسان إنما يبقى خدِراً حتى يُوقَظ بعلِّة. وظلَّ الوعيُ غائماً مع العِلة الموقظة. ولكن الطينة التي يُضرب بها الحائط مراراً وتكراراً اذا فاته التصاقُها فلا يفوُته أثرُها.. ذات سنة كان لنا: في « البترون – وجبيل » موقف موحَّد من الاضراب السلمي عن تسليم المنتوج، رغبةً في جعل السعر متكافئاً مع نفقات الأجور والسماد والتوضيب، وغلاءِ الحاجيات. وحاول بعض المسعِّرين في جبيل، ببادرة منه، او بوحي من فوق، تصديع هذا الموقف، ولكنه فشل، فأقفلنا مستودع الشركة وقابلنا المسئولين في بيروت، ففزنا ببعض المأمول. وانتهى إلى سمعي، وانا أركب السيارة، قول من سبَّني، وأقذع، مهدداً بحلق لحيتي، وكنت آنذاك مخروط اللحية. والأبطولة التي كانت الشركة والدولة وعملاؤهما يتخرصون بها هي هي، حسب المناخ السياسي، المحلِّي والدولي: تارة نازية، وطوراً شيوعية، واخرى حركات هدامة مريبة. والمطالب المطروحة ليست هذه ولا تلك، انها واضحة المفارق والسمات. ولكنها مرفوضة لسبب واحد هو انتقاصها لأرباح المحتكرين والمستغلِّين، شركةً كانوا، أو دولةً، أو المنتفعين بالشركة والدولة. وأحقد في ذات نفسي على هؤلاء جميعاً، وأشفق في اعماقي على اولئك المظلومين، وحقدي على هؤلاء، وحبِّي لأولئك قِيسٌ واحد.. « فلابدَّ لليل ان ينجلي ولا بد للقيد ان ينكسر » * * * وانفعل فكر كل ذي فكر قادر على التعبير بالحرف والكلمة، بهذه » الكارثة » الوافدة الى كلِّ بيت: تارةً بشخص المقدِّر، وطوراً بشخص المسعِّر، ومراتٍ ومراتٍ بسلاح الجلاوزة تفتيشاً وتنقيباً وسوقاً الى المحاكم. إِنها شرُّ مصيبة ، و « شرُّ المصيبة مايضحك » وقد تناول الزجالون هذه المثالب بما يُضحك ويُبكي من أزجالهم. فقال مخايل منعم (65) وهو من الذين طُووا وهم منشورون، بطيب الأُحدوثة، ولطيف النكتة، وجميل الأثر، ورقة المناسمة. « إِن جاك سخوني وضربات بلِّش ببيع الرزقات أما بيع الدخانات شرطوطة فوق الدكِّي وان خاس قدارك إِقا من الموسم ما بتترقَّى كل ساعة يقلّك بقّا وخدلك غطرسة الدرْكي وان خاس قدارك كيلو عالمحاكم بتحيلو بتضل تحطو وتشيلو وما بتسترجي تقول ملكي البيكون بالربح مولَّع بيقدِّر ويقول قلِّع شاطر شخص البيبلِّع وربحان العندو كركي بعد ما قرينا بكتاب في شركة بتحجز دواب كان لازم تحجز شباب أَيش خطية « الدنكي » الشركة صارت مفتخره وعمْ بتشغلنا سخره اصبر السنة واخرى عليها بيصير لافكِّي » وقال مخايل الخوري الصغاري متظلِّماً من تخمين المخمِّنين: « عنا دارا بالميدان صارت متل الخبريِّه منحكيها للموجودين بالكفر وقلة هاالدين عملتوها ميه وسبعين بالكاد تفوت الميه قلة دين بقلة دين من الشركة والقدارين حرقتوا دين الفلاحين تقيله ان قلنا حراميه الله يعينك يا فلاح منين بعد بدك ترتاح هربت وجيت عالمراح طلعت البله فيي (66) ايش الوقعة بهالشركة بدا تبيِّعنا التركه ما راح تمضي بلاحركه لو بقيت عا لماهيه يا جماعة كيف بدنا نعيش متل الماشي عالطمّيش ما منشوف غير التفتيش وفي معهم عسكريه كل كلامي وتأييدي هيك صاير بالأكيدي والناظم هالقصيدي بعتولو حلوانيه » ومن طريف ما تقرأ مخمَّساتٌ ساخرة، لمربِّ كبير وأُستاذٍ للأدب العربي في كليات لبنان وسورية، وزارعٍ من زرَّاع التَّبغ في قضاء جبيل (67) ، تعكِس مشاعِره، ومشاعرَ أَمثالِه من زرَّاع هذه النبتة السامَّة وهُواة السيكارة المصنوعة والمعلَّبة في معامل « شركة الحصر اللبنانية »! إِليك بعضاً منها: ألشِرْكةُ مِثلُ المنشارِ تمتصُّ البائعَ والشاري تبتاع بأبخس أسعارِ وتبيعُ كمجلس أيار (68) الليرة تَربح خمسينا دخل المأمورون الدارا طوعاً..كرهاً.. لامختارا معهم.. فتقدَّم مختارا واكشف أشياءً أسرارا لا تُبقِ خفيّاً مكنونا هيَّا ادفعْ أو نفشوا الفرشا قلبوا قلْباً.. نبشوا نبْشا لم يُبقوا عفْشاً أو نفْشسا حجزوا بقراتك والطرشا ذبحوا ديكاً.. أكلوا تينا أكلوا أتعاب المسكينِ اخذوا بالأسعارِ الدونِ ويلٌ للشعب المغبونِ من هذا »الحصر » الملعونِ ما أنحسَ هذا الطاعونا كانت أتواع الأثمان للصفِ وجنس الدُخَّان فغدت للسيد ذي الشانِ للبيك وشتى الأعوانِ قتلوا الدُّخَّان.. أماتونا افلحْ ازرع واركض واتعب لكن من تبغك لا تشرب ما الارض لمالكها، فاعجب والتَبغ لغيرك.. لا تغضب واشكر من سنَّ القانونا نزعت أنواع الدُخَّان لا أول ينفع، أو ثانِ مزجته بشتى العيدانِ بالزبل وروث الفيرانِ والسمُّ القاتلُُ يردينا هَذي الريجيْ ما أبرعها! ما أعدلها! ما أبدعها! ظلمت جارت..ما يمنعها؟! إِن القاضي راضي معها لم تحفظ قطُّ قوانينا التَبغ تداعى.. بل فلَّس وزراعته منه أنحس فارتح منه وازرع ترمسْ قطناً أوكتاناً يُلَبَس ازرع تيناً.. أو زيتونا ازرع قمحاً أو شوفانا وشعيراً، فولاً، زيوانا بصَلاً، ثوماً..أو ديدانا طاغوتاً، غولاً، شيطانا لا تزرع.. ودَعِ التدخينا قيل لسقراط: كيف تحكم على إِنسان؟ أجاب: أسأله كم كتاباً يقرأ؟ وماذا يقرأ! أوراق لها تاريخ الجزء الثالث: تحت الطبع مرايا الزمان « شعر » (تحت الطبع) « .. لونٌ من الأدب الوثائقي، تحيا فيه التجربة الشخصية، بوعي شمولي نابض، وحسٍّ مشترك بين زمانٍ وزمان، وحاضرٍ وأَمس، في استطراداتٍ مستأنية، غير متراخية.. فإذا أنت منه في أَلوان من فواكه ومفاكهات وعِبَر.. « مطابع دار البلاد – طرابلس البولفار تلفون 625556 / 631164 5 ل.ل. تعليقات، ملاحظات وهوامش (1) عبدالله عبدو ضاهر: 1876- 1965 ولم يكن يعرف يكتب « منعم » (2) اسمه طانيوس (3) المهندس مالك بصبوص – غوما – مدرسة الفرير ماريست – البترون (4) بولس،وقد اغترب سنة 1906. توفي في مغتربه وله عائلة (5) وردية يوسف ضاهر من مهجِّري » بسبينا « (6) أرابيسك (7) عفيفة بنت الخوري يوسف منعم (8) شمس شباط تسامت الرأس لقربها من الارض فتؤذى.. (9) أمين الريحاني (10) جوليا (11) أصبح فيما بعد من نصيب عمي بولس، وبيع، ونقض- و »الزحلوقة » اسم مكان في القرية. (12) مساحة عمل للثورين المكدونين يومياً. (13) ستوت ابنة ناصيف زيادة أرملة بشاره بو أمين. (14) كناية : عضو التناسل.. (15) مدينة في جزيرة صقلية تقع في البوغاز المسمى بها. دمرتها الزلازل في 28/2/1908 وقضت على ثلثي سكانها. رثتها أقلام الكتاب والشعراء في أنحاء الأرض، ومنهم حافظ ابراهيم: « ما « لمسِّين » عولجت في صباها ودعاها من الردى داعيان « (16) الخوري يوحنا منعم (17) الإِلهة حتحور.. إِلهة الرعد والصواعق. (18) لوسيا زوجة قيصر شاهين ابنة الخوري يوسف منعم : بسبينا. (19) الخوري يوحنا منعم وابن اخيه يوسف.. (20) نعوم طانيوس (21) ضاهر عبدو (22) الخوري منصور منعم سنة1935 م (23) حارة بيت بو نوفل (24) رامح منعم (25) أوائل الالف الثاني ق.م. (26) المطران يوحنا حبيب : مؤسس الرسالة اللبنانية – الكريمية سنة1865 (27) 4500 ق. م. (28) اروكاجينا ملك لكش (29) دائرة الإِجراء. وقديماً: دائرة محرر المقاولات (30) فيلسوف صيني : 479ق.م. (31) )نخله عويجان،من أغنياء البترون (32) محمد مهدي الجواهري في بائيته المشهورة (33) المساحات المغروسة توتاً سنة 1914، 24 الف هكتار (الهكتار عشرة آلاف متر مربع) تدنت سنة 1935 الى 6 آلاف هكتار، وكانت في ولاية بيروت 900 الف شجرة في 4500 هكتار. (34) سمي « دكراً » لأنه من « البرك » في ثقب وفي الكلمة معاقبة بين الدال والذال. (35) 2650 ق. م. (36) سنة 550 م. (37) كان للبنان قبل سنة 1914 6 ملايين ليرة ثمن فيالج. وفي 1914 كان ثمن الحرير المصدر مليوناً و 200 الف ليرة ذهباً، فأصبح سنة 1935 385 الف ليرة لبنانية ورقاً. يصدّر الى ليون ويعود الينا نسيجاً بأثمان مضاعفة. وقد ارتفع الانتاج من 1920 الى 1929 من 800 ألف كيلو الى 3 ملايين و 460 الف. وقبل 1914 كان عدد المعامل 200 وعدد عمال الحرير 15 الفاً فلم يبق سنة 1935 غير ثمانية معامل و 400 عامل. وأول معمل أُنشِىء على غرار معامل أوروبة في لبنان سنة 1836. وكان لبنان المتصرفية يبيع لمصانع طرابلس كل عام 350 الف كيلو شرانق ولمصانع بيروت 200 ألف كيلو. (38) ثلائة ارباع الابزار من فرنسة (39) 113 كيلواً من الشرانق يعطي كيلواً واحداً من الحرير،250 غراماً من الدود الصغير = 15 ألف دودة تنتج 25 كيلواً من الشرانق. (40) أقفل 600 نول في بكفيا، بيت شباب، الزوق، برجا، شحيم بسبب هبوط الاسعار وانعدام الحماية الجمركية ومنافسة الحرير الاجنبي. (41) الكلمة أرامية=سريانية: « بيت سابينا ». و »سابينا » اسم إِله سامي كنعاني. و »ساباوت » اسم إِله يهودي ولعل « سابا » مختصر « ساباوت » على وزن ملكوت،بحذف اللاحقة السريانية. و »سابازيوس » اسم إِله يعادل « جوبيتر ». وهناك فرقة نصف يهودية هي فرقة « السابازيين. وفي شمالي لبنان قرية : « بزبينا » : « بيت زابينا » بتصحيف ومعاقبة. والباء، اختزال بيت. وكل الاسماء المبدوءة ب »باء » هي من هذا الباب. (42) شير : صخر ضخم. شار، مسار، شوار، شوره : كلها من جذور سريانية – آرامية. (43) مثل روسي. (44) بين أواخر عهد رستم باشا واوائل عهد واصا باشا وعلى الاخص سنة 1885. وأول عملية مسح في بلاد جبيل والبترون جرت عهد الامر يوسف شهاب الذي قتل شنقاً ( 1770 – 1797 ) وتولاها القاضي الخوري ابراهيم نون والشيخ سمعان البيطار، وجرت مساحة ثانية في عهد الامير بشير..! (45) في مدينة البترون « حي » : هو « حي الغلابنة ». (46) أحرقوا سنة 1676 « بسبينا « ، قصوبا، تولا، عبدللي، صغار، شبطين، في عهد والي طرابلس « حسن باشا ». وكانوا أحرقوا سنة 1675 حصرايل، ونهبوا قرى البترون، وكان حكمهم من 1782 الى 1842. (47) وذلك سنة 1882 (48) لعل كلمة « منعم » تصحيف لاسم إِله آرامي،( مونيموس ) : الاله الكريم الوهاب. عبده أهل حوران،كما عبده أهل الرها مع رفيق له اسمه « عزيزا » وربما تكون عائلة « عزيز » كعائلة « منعم » وكلمة « منعم » العربية من الاسماءِ الحسنى، سمي بها مضافة الى « عبد » أحد مقدمي بثسري (القرن 15 م.) وعبد المنعم تسمية اسلامية أيضاً. وفي كنيسة كفرحي -البترون- (مار سابا) صفيحة تاريخ ( 270 م. ) يرد فيها اسم « مونيموس » و « عزيزا « . وفي قصر هنري فرعون صورة أثرية للإله » مونيموس « (49) قرية في بلاد جبيل. (50) سترد قصة ذلك في جزءٍ تال. (51) في الطبعة اليسوعية. (52) مخايل يوسف منعم. (53) الشلن : خمسة غروش مصرية.. وفي عهد ابراهيم باشا المصري صارت الأموال « مصريات ». (54) سمسار : تعريب (سيب سار) الفارسية : وسيط بين البائع والمشتري، وهو غير الدلال. (55) المفوضى السامي الفرنسي صاحب نظام « المونوبول ». (56) أمين الريحاني : من خطبته في الوست هول. وقد نفي بسببها الى للعراق (57) الكتاب المقدس (58) تبغ : معرب « تاباكو » بفتح التاءين وكنا نسميه « تتن » معرب « دوتن » الفارسية. (59) 1560. وخصوا باسمه ما في هذه النبتة من السموم « نيكوتين ».. (60) في قضاءِ البترون 56 قرية = 1665 غارس – 350 دونم (الدونم الف متر مربع). انتاج 1961 / 193700 كيلو. وسنة 1962 زادت المساحة 700 دونم. وكان موسم قريتي في سنة 1961 / 4700 كيلو. (61) أمين الريحاني : من خطبته في الوست هول. (62) في كل علبة 20 سيكارة. (63) الكيلو الف غرام. (64) نصف رطل. والرطل 12 أوقية. (65) كفيفان – 1882 – 21 / 12 / 1977 (66) قرية مراح الزيات (67) قرية شيخان : حنا نمر (68) مجلس 25 ايار سنة 1947 وهو المجلس النيابي السابع المشهور بأنه مزور. وكان يقرأ عند فرز الاصوات اسم اميل لحود، اسم روكز بوناضر. |