| الاب طانيوس منعم أوراق .. لها تاريخ الثالث إلى ريحانة الروح وتفاحة القلب بنت الأخت إلهام . هذه « أوراق » في جزئها الثالث مختارة من مجاميع بعضها سيرى النور تباعاً و بعضها الآخر يظل في غلاف الظلمة إلى حين لعل في ما أفكر واكتب مظنة خطأ أو ضلال ! وربما كان الخطأ أو الضلال صواباً جاءَ في غير أوانه ..! وما ينشر الآن يجيء في أوانه الكاهين الفلاح (۱) لفظ نفْسَه مثل كل ذي نَفَس ، وعاد ذرّات من تراب أخِذَ منه ، مثل كل ذي جسد. وبين الرحم والرحم مسافة زمن طويلة ، شاقة ، مشاها خطى كاهن الى المعبد، وفلاح الى الحقل ، ورسول للخير. في ذاكرتي منه كثير من مناقب ، وفي عقلي بعض حكمه ، وفي قلبي عرفان جميل ، ولو وراء القبر .. هذا الكاهن أحبني صغيراً ، وأحبني زميلاً . توسم في الخير ، لأنه من ذويه . كنت أميل إلى (۱) الخوري يوحنا منعم ١٨٦٠ – ١٩٤١ ٩ مجالسته صغيراً ، وكان يميل الى مجالستي زميلاً ، نتعاشر ، ونتحاور ، ونتفاكه. ما من يد استطاعت أن توهن بيننا حبل وداد ، أو تقطع ، ولو خيطاً من هذا الحبل.. للرجل في قريتي تاريخ : تاريخ على قده ، بقدر ما أعطي من قدرة وكفاية ، وطول باع . له في أرض آبائه وأجداده روحات وغدوات ، وآثار أقدام انتعلت التراب ، ونكبها الشوك . ولكل إنسان تاريخ ، وإن اختلف باب الدخول إلى محرابه . وصديقي ، على أي حال لم يلجه من بابه الخلفي ليُذكر مع من دخلوا التاريخ من هذا الباب . فهؤلاء ذوو جرائم ، صغائر ، أو كبائر . الخوري يوحنا منعم ، كما عايشته ، إنسان طيب الطينة ، ميمون النقيبة ، نقي السريرة يُحب ولا يُبغض ، ولا تغرب على غضبه شمس. ۱۰ كادح في عيشه ، وهو لذلك غير ذي عينة في لباسه . تبتل لربه ، وتبتل في عمله لذوي قرباه ولعلَّ في هذا بعض الملامة . يُهمل نفسه ليعتني بغيره ، لا تهمه مظاهر الشخصية قيافة وهنداماً ، انما اهتماماته ، عملاً وخلقاً ورسالة، هي ما تُحسَب. في عاداته بعض ما يُعابُ عليه ويُعْمَز به : منها بعض نكاته ، وقد تأتي مبذوءةً أحياناً مما لاتقع في الآذان موقع القبول ، ومنها أسلوب از دقام الطعام … ومنها عادة قتل أية ذبابة تغط عليه بسبابة يده ، ونادراً ما تنجو منها واحدة ، فلا يخلي مكانه إلا على مقتلة ذباب. وكان في دخيلة نفسه يشعر بقبح هذه العادة ولكنها أصبحت فيه طبيعة ثانية يمارسها بلا وعي ، كأي حركة اضطرارية من حركات يده ورجله وعينه. ولعلَّ العادة تلك ، من معطيات البيئة القروية ۱۱ المتخلفة ، بما تحفل به من ذُباب يتوالد من روث البقر المتكوم ، أو المشرور بين منازلنا ، وفي دروبنا ، وداراتنا ، وليس لنا وسائل النجاة منه فكثيراً ما نأكل طعامنا ، ونحن نكش عنه ذباباً يحاول الوقوع عليه . نكشه قَرَفاً ، وإن كنا نجهل ما تحمل الذبابة الواحدة من جراثيم تلوث ما تقع عليه من طعام (١). هناك مثل من أمثالهم ذو دلالة تاريخية ، وله في نفسي وقع أليم ، طالما ردده الآباء مسبة للذباب المتهافت على طعام، وهم يهولون عليه بالأيدي تارة ، وبمكشة من أغصان الزلزلخت تارة أخرى : » يلعن محمدك .. » ! أو كلمة سباب أخرى بدل « يلعن » . ألفاظ بذيئة ساقطة هي بعض بعض أثر مـــــن عاطفة متعصبة متزمتة جاهلة ، دسها الغرب المسيحي (١) تقول المختبرات الميكروسكوبية : ان الذبابة الواحدة تحمل بأرجلها ٣٠ الف جرثومة. ۱۲ الحاقد ، في نفوس بريئة ، بأفواه طلائعه المبشرة باستيطان لاتيني للشرق العربي ، تحت شعار الصليب (١) إنقاذاً لإقطاعية مأزومة في ذلك الغرب ، تماماً ، على غرار الاستيطان الصهيوني تحت ألف شعار وشعار . فتذابح الصليب والهلال ، وهما متآخيان بالله والانسان – ويفقدان معناهما ما لم يتآخيا – . وترك هذا التذابح البربري اللاإنساني احقاداً ، ولوثات في نفسية الآباء والأجداد .. ليجيء هذا المثل، وغيره من مثله من هؤلاء وأولئك تعبيراً عفوياً عنها. وما تزال منافع المتاجرين بالشعارين المتآخيين بالله، مثار عواطف غبية ، وغرائز وحشية ، نتذابح بها وننتحر . وذوو الحوانيت الطائفية يرقصون على المقابر تهليلاً وتكبيراً . (۱) حروب الاستيطان اللاتيني الصليبي: ۱۰۹٥ – ۱۲۹۱ وانهار الدماء بين المسيحية والاسلام، وبين المسيحيين انفسهم أغنت الأرض وأفقرت السماء. ١٣ « والدين ليس بآلة للكسب في يد خادم للدين أو متزعم » (۱) ٠ ٠ ٠ بيئة فلاحية متخلفة في وسائل عيشها : صحة وطعاماً ، لكن إنسانها كان إنساناً في الجوهر ، في القلب ، في الدين ، والضمير . أو هكذا هو في الأغلب. قد تستبد بهذا الانسان المتخلّف في حضارته نوازع أنانية ، وطمع ، وحسد ، وبغضة ، ولكنها تظل على السطح من القلب ، ولا تلبث أن تذبل لخلو القلب من دِمَن .. هذا الإنسان ، على أميته ثقيف القلب ، اذا زل ، فليست زلته من قلبه ، فالتواصل والتعاطف ألصق به من التنابذ والتقاطع. فقلما اختصم اثنان في القرية ، ونام أهلها على رضى بهذا الخصام، ولم يكن الخوري يوحنا مرة (۱) نقولا فياض ١٤ غير صلة وصل ، وواسطة عقد . وما عرفته يوماً حاقداً على من تنادر عليه ، أو سلقه بلسان ، أو مسَّه بضر . سره أني صرت كاهناً ، وهو الذي كان يدعوني و انا صغير ، كلما زار بيتنا ، الى تلاوة ما حفظت من الانجيل عن ظهر قلب باسطاً راحتي بشكل كتاب مفتوح فوق رأسه . بخلاف ابن اخيه «الشيخ» وهو عرابي ، وذو صلة قربى بوالدي . فقد ظل مدةً يحييني « بمرحباً يا شب » كلما التقاني . وكنت لا أبالي . فإنما انظر إلى مثل هذه ، بعافية نفسية سمحة. وأدرك الخوري يوحنا بذكائه العفوي ما يختلج في نفس ابن أخيه، فقال له : « لا تخف على وظيفتي الرعوية أن تصير الى الخوري طانيوس ، فمكان مثله لمدرسة ، لا رعية القرية. وهذا واقع ، فقد خلت الرعايا آنذاك من كهنة ، رسل دين وثقافة معاً ، أو رسل دين مثقف ، لأن مقومات حياتهم بما يتكافأ وثقافة الرسالة خارجة عن دائرة اهتمام الرؤساء . فكهنة الرعايا متعلِّمون . ويُكتفى من تعلُّمهم بما تستقيم به ممارسة طقسيات العبادة بأجر هو جعالات مآتم وأعراس ، وحسنات قداديس، وبعبارة أدق : عبادة أشبه بكرة زُيِّنت بالتهاويل كلما ازدادت هواءً كبرت حجماً ، وبقي محتوى الدين باعتباره ثقافة قلب تنعكس في السلوك ، والمعاملة ، والممارسة ، فراغاً ينطوي على فراغ. كان الخوري يوحنا كثيراً ما يُضطر الى مقايضة بقداديس ، بعض ما يحتاج إليه البيت من مؤونة وألبسة : بطاطا ، فاصوليا ، أحذية، وكذلك بعض ما تحتاج اليه التوتات من سِرْجين . والناس يتسامعون في هذا ..! ويستهجنون ..! ولكنه واقع على أي ١٦ حال ، وواقع مفروض ، وإن كان في نظري واقعاً مرفوضاً. أيُلام هذا الكاهن أن يلتمس العيش كغيره بأية وسيلة ممكنة ، ولو أن في الوسيلة بعض الغضاضة ، وذُل السؤال ، وضعة الاستجداء ..! ما دامت ضمانة الحياة ، والعجز والشيخوخة بوسيلة أخرى أوفر شرفاً ، نَهَباً مشروعاً لضمانة ذوي السلطان جاهاً ومالاً ، ورغادة عيش ، وبطر ثراء !! أيلامُ كل كاهن أن يرتقب المأتم هنا وهناك ، وأن يداخله شعور بالرضى والبركة – كما يتقوَّل الناس – كلما وقعت في سمعه رنات جرس متقطعة حزينة، أو كلما دق بابه رسولُ نعي ! ثم لا يكون قنوعاً بالجعالة إحساناً يأتيه على غير ما يتوقع من قدر ، ولو كان من يُؤتم له غير ذي يسار.. أيلام أن يوسِّع « المناعي » وهو كاهن الرعية ، ۱۷ بين قريته والقرى الأخرى لتتسع دائرة انتفاعه بهذا التناعي ، وينهض عدد الكهنة والاساقفة في مأتم ذلك الهيكل الترابي ، دليلاً على كرامة من مات أو كرامة ذويه، ليدفن بعد قليل .. سخاءً عليه صلاةً ، والتماس رحمة من ربه ، مع ما في هذا التمهرج من نفقات ، قد يُضَنُّ بها عليه حيّاً ، إطالة لمسافة الزمن بينه و بين القبر ..! ولكن لا يُضن بها على جاهٍ فارغ أرعن ، وكرامة زائفة ، والفقيد « المكرَّم » « الموجهن » ، لا يلبث أن يصير هباءةً من تراب ..! نفقاتٌ هوالك ، كنفقات الأعراس وسائر التقاليد الأخرى التي نزَّلها الجهل المركب منزلة القداسة ، وليست من القداسة في شيء ، إن لم تكن كل شيء سوى القداسة ! * * * ١٨ من إفضال هذا الكاهن عليَّ ، وأنا في درجتي الانجيلية، أنه كان مشجعاً لي على الوعظ ، بعد قراءة الانجيل ، فيستوي هو جالساً ، مختاراً ، على كرسي بجانب المذبح. إنها لفتة رسولية إلى من توسَّم فيه معنى الرسولية أو توهم فيه ذلك ! أما مواعظه فقد كانت بمستوى علمه ، بوحي تجاربه لا تعدو كونها حثاً على حفظ الوصايا الآلهية والكنسية . يخاطب الناس ببساطة . يكلمهم بالأمثال، وهل تكلم المعلم الإلهي بغير الأمثال ؟ وهل « دخول الجمل في خرم الإبرة أيسر من دخول الغني ملكوت السماوات » غير مثل من أمثاله (1) ؟ (۱) قيل في تفسيره : الجمل : الحيوان المعروف : والابرة : هي الخياط المعدني المعروف . وقيل : الجمل ، وهو قلس السفينة . وقد اكتشف اخيراً في فلسطين مكان يعرف بـ « خرم الابرة » اقيمت فيه ابنية ذات ابواب واطئة لا يستطيع الجمل ( الحيوان)ان يدخلها ، وذلك على غرار النوافذ المفتوحة في بوابات الحصون القديمة، منعاً لدخول الخيالة اليها . ١٩ فقد كان يشبّه خطايا الانسان بظهارة الدابة. قال لهم: « من منكم يترك الظهارة على الدابة فـــلا يكشف ضهرها كل يوم ، وينظفه بالمحسة ، واذا أهمل ذلك فماذا ترى تكون حالة الدابة ، صحة وراحة ؟! وماذا ترى تكون نفوسكم إذا ظلت مثقلة متلبِّسة بالخطيئة، ولا تنظفونها بالاعتراف » ؟! تشبيه الخطيئة بالضهاره ، والنفس الخاطئة بالدابة، بحيوان، بنفس حيوانية، رائع ومثير فلا صحة للنفس – نفس الانسان – بلباس الخطيئة.. قد يبدو المثلُ غير مقبول من السامعين . إنه نكتة ؟؟! إنه أضحوكة ؟! ولكنه معبّر.. *** من عادة الأهالي أن يجتمعوا ، قبل سماع القداس في باحة الكنيسة ، فتتحول الى مجالس مناقشة ، أو مفاكهة ، أو مشاتمة ، أو مناقرة .. فتتعالى الأصوات ٢٠ وتتصادى في الكنيسة ، فيما الآخرون يصلون أو فيها الكاهن يصلي .. فينهرهم من النافذة المطلة على الباحة : » هِي .. هي » ويُصفِّق .. « اصواتكم مثل البرغوت بالديني .. » وكل منا يفهم حقيقة إزعاج هذا الضرب العضوض الشديد الوثب من صغار الهوام ، ولا سيما عندما يثب في آذاننا . فبيوتنا كلها مبرغثة ، وعلى ثيابنا ، وفرشنا ومخداتنا ونَماتُ البراغيث . فلكم أقلقت راحتنا هذه الهامَّةُ الوثابة ، وحرمتنا لذة الكرى ، وإغفاءة الصباح .. فصفعنا أجسادنا وخرشناها ، ولطمنا أعضاءنا ، وانفتلنا من يمين إلى شمال ، ومن شمال الى يمين ، في ليل ناصب طويل،ليل البراغيث: « كأنهنَّ وجلدي إذ خلون به أيتام سوء أغاروا في مواريث » أرضية بيوتنا ، وسطوح الأقبية كانت ملاطاً ۲۱ من طين تُحمَّر بعُصارةٍ من قرون الخرُّوب الخضراء. وكانت هي مع الأقبية مساءَة البراغيث *** كان قويَّ الحافظة ، راويةً للكثير من الأمثال والحكم والعديد من الوقائع . كنا « نتلوهتُ » مرةً في إحدى جلساتنا الحميمة ونتذاكر بشأن نماذج من البشر ، ممن يتفيَّئُون ظلال القداسة ، وهم شياطين . يقرعون صدورهم بجمع الأكف ويمدون ألسنتهم لابتلاع المسيح ، في قربانة ، بإطراقة رأس خاشع ، وإغماضة عينين في حياء ، فيما أكفهم تجمع ما لا يحل لهم جمعه، فيبتلعون الجمل، ولا تقع أعينهم من الناس على غيرِ قبيح ، وأنتنِ ريح. روى لي ، فيما روى ، واقعةً طريفة ، إن دلت على شيء ، فعلى جرأة إيمانية من صاحب حق ٢٢ في فضح المعتدي على حقه، في ملأٍ من المصلين قال: ( اقتلع « بوساسين » شجرة توت لـ «كرَم» ) في ليلة ، غاب قمرها ، وأحلولك ظلامها – والتوتة آنذاك ذاتُ ريع مقدور ، لا يُضنُّ بها – وفي ظنه أن فعلته خفيَّة من خفايا الليل ، وبان لـ « كرم » ما فعل « بوساسين» ، وانتظر أن يردَّ ثمن ما سرق بعد اعترافه لدى الكاهن : و « لا تغفر الذنوب ما لم يرد المسلوب» وفي يوم من أيام الآحاد ، تقدم ، بوساسين ، مائدة الرب ، فاتحاً ذراعيه في توسل ورجاء ودعاء : « تعال يا يسوع حبيبي تعال ولا تبطو.. » فنهره من ورائه بصوت مسموع : « ردّ التوتة لكرم وقول ليسوع حبيبك تعال ولا تبطو… وذهبت «توتة كرم» مثلاً يُروى . وإنما الناس أمثال تروى ، فهنيئاً لمن جعل نفسه « حديثاً طيباً لمن رووا» … ۲۳ في معرض حديثنا عن البطريرك الحويك، ومواقفه الوطنية ، ومشاعر قلبه الكبير ، ومنجزاته الإنسانية(١) طالعني بأفكوهة ناقدة على لسان هذا البطريرك العظيم . قال : أضاع رجل من إحدى قرى البترون صُرَّةً فيها خمس ليرات ذهبية على طريق الحافر العمودي : بين كفرحي – بجدرفل – جدبره – البترون . وجدَّ يسأل ساعياً إلى نشدان ضالَّته ، فلم يوفَّق ، فلجأ إلى غبطته راغباً اليه في إصدار «حرم» يُقرأ في الكنائس يحتم على من وقعت في يده الصرة ، أن يردّها إلى صاحبها بواسطة البطريرك ، وإلا يكن ، «محروماً» (۱) من مواقفه الوطنية : « أنه قال للنواب في المجلس التمثيلي الأول يوم زاروا المقر البطريركي في ٢٥ آذار سنة ١٩٢٥ ، وهم في غمرة اعداد القانون الأساسي لدولة لبنان الكبير : ( ضعوا أمام أعينكم مصلحة لبنان واجتهدوا ان تجعلوه مثالياً واياكم ان تجعلوا لطائفة ميزة على طائفة أخرى . فكلنا في الوطن سواء . هذه كانت غايتنا يوم تجشمنا المشقات والاسفار دفاعاً عن مصالح لبنان» ٢٤ أي ممنوعاً من شراكة المؤمنين ، مقطوعاً عن جسم الكنيسة . وكان أمر «الحرم» آنذاك عقاباً رادعاً مخيفاً ، لأنه يجعل من أُنزل به من المؤمنين مغترباً عن ربِّه ، وعن نفسه ، وعن الناس كافة ، كأنَّ به جرباً لا يخالطه أحد . ولم يمض طويل زمن حتى كانت الصرة بين يدي غبطته . وجدها رجل من بسطاء الناس ، ومن أعِفَّة الفقر . فبعث في طلب صاحبها ، وهنَّأه على وجدان ضالَّته وقال له : » شكر ربك يا بني على إنا لم تقبع في يد لاهوتي .. » وهو يعني « باللاهوتي» رجل الدين الذي يستطيع أن يخرِّجها ، ويبيِّن لها وجهاً لاهوتياً يجعلها له حلالاً زلالا … في أَوَّل عهدي بالكهنوت ، كان قداسي يستغرق من الوقت أكثر مما يستغرق قداسه ، لأن شيخوخته ۲٥ التعبة ، تضطره إلى تجاوزات ليتورجية . ولعل الممارسة المستمرة جعلت اللفظ والحركات عنده أيسر منها عند من هو بها في أول عهده . وكاشفته مرةً بهذه الملاحظة . فحدق بي وابتسم مفاكها ، مـــــادّاً صوته بعد نحنحة وهمهمة : « يا خيي .. عندما كنت متلك كنت خاف من المسيح ، بكرا لما بتصير متلي بيصير المسيح يخاف منك..»! هذه الأفكوهة الناقدة الذكية ظلت في خاطري نكتة تاريخية .. وبت أراقب نفسي وأسائلها : هل أنا أخاف الآن من المسيح، أم المسيح يخاف مني ؟! في يقيني أن بعض المسيحيين ، وهم كثر ، ممن مسيحيتهم بطاقة هوية طائفية، ومورد نفع، ومراسم عبادة ممظهرة فقط ، يخافون مني . هذا رأيي في نفسي .. وهذه قناعتي ، ولا عبرة برأي الغير إلا إذا كان هذا الغير مكافئاً : ۲٦ أي لا يُجاوِزُ حدَّ مِثلِهِ ، ولا يُقصر عما رُفع اليه هذا المِثْل .. *** و همدت الطاقة النشيطة المكافحة في تلك الكتلة من اللحم والدم ، فتكوَّمت على نفسها في زاوية من البيت . وكنت أغب في عيادته .. وتمتثل في كرتي مشاهد حياة هذا الكاهن الفلاح العامل في المعبد والحقل بأريحية نفس بارة ، وطمأنينة إيمان. كان أريحياً حقاً. فإنما الأريحية في إنسان أن ترتاح نفسه إلى طيب العمل ، ونبل الحاجة. في أي مجال طلبته وجدته مبادراً ، يعمل لك كأنه يعمل لنفسه راضياً مَرضياً. إذا احتجت إلى ظهرٍ عنده قاده اليك في إكافه وعتاده. وإذا أزم لك أمر خفَّ إلى مناصرتك كأن قليه قلبك ويده يدك . وإذا كان الشأن عاماً تراه ۲۷ سبَّاقاً إلى الشأن العام سبق قدمه إلى بيت الميت ، أو بيت المريض ، أو بيت العريس ، أو إلى المعبد في مواسم الصلوات والزياحات ، لا يُنهنهه تعب عمل سحابة نهار ، أو أهاليلُ مطر ، أو صبارة برد ، أو توقل العقبة الهدود ، من منزله إلى المعبد ، ومنه إلى منزله، ولو لم يبادر الى مشاركته في الصلاة غير عجائز ، هنَّ من المعبد على مسافة خطوات . وإنه لكذلك في إبان شيخوخته. وهو ، إلى هذا وهذا ، شجاع في دفاع عن حق ، أو مطالبة بحق أمام رؤسائه ، وأمام الغاصبين..! فقد دافع عن وقفية «ساسين سمعان» غير هيوب ، وتولّى زمناً شئون الوقف بغير جوع إليه أو طمع فيه. ويوم استرد الله وديعته ، وكأنه استردَّ شيئاً من ذاتي، كان انفعالي شديد الأثر في أعصابي، بادي الملامح في وجهي ، مما جعلني أقوم ببعض ٢٨ ما يقتضيه خلق الوفاء . والوفاء عندي خلُقُ مُلزم يتجاوز أي اعتبار طارىء . فكانت كلمتي فيه ميتاً بمستوى تقديري له حياً. وفي ضوء معرفتي بكثير من بني « اللحى والقنابير» يظل الخوري يوحنا منعم ، من منظوري الكهنوتي، خير كاهن عامل فلاح عرفت ، وعاشرت و اختبرت ..! ۲۹ الفرن والتنور تعاقدت خناصر الجدود ، وتعاطفت قلوبهم على الخير ، فبنوا مدرسة الضيعة لصق الكنيسة إلى الشرق . وقد شهدتها طفلاً ، جدراناً متداعية بفعل هزة حدثت . واتفقوا على هدمها بعد الحرب الأولى، إثر اجتماع عقدوه ، بعد القداس ، في الساحة ، تحت الزيتونة . وتنافسوا في اعمال الهدم .. وما علمت السبب ، ولكني أذكر أن والدي كان أَوَّل المتحمسين ، حتى أصبح الناس يتنادرون بقوله : » أنا بهدا. صهري مرعي بيهدا. الخوري حنا بيهدا.. » وكما بنوا للضيعة مدرسة ، بنوا لها فرناً يخبزون ٣٠ فيه كل حسب نوبته .. والمدرسة والفرن والتنور ملكية عامة ، لأن الأهالي عامة اشتركوا في البناء لمصلحة عامة ، لا خاصة.. والأشياء كالاشخاص هي ، في الأصل ، نكرات، حتى تُعرف باسم معين، أو بحادثة معينة، أو بطبيعة أرض معيَّنة من : ماء ، وشجر ، وصخر ، وجبل . أو بآله معين .. وهذه الأعلام كثيرة في لبنان فنحن نقول دوارة «الفرن » ، « تين الشميس » ،« صار بو أمين» ، ، ، صار« المقابر » ، « عقبة الفرس »(١). والضيعة (۲) حارات ، كالمدينة أحياء : «فحارة التحتا» ، « وحارة الفوقا » ، حسب مكان الحارة (۱) «الفرس » اسم لإلاهة المحبة والمشورة . وفي المكان كنيسة على اسم العذراء المعروفة « بسيدة الفرس » بنيت على مقربة من الكنيسة القديمة التي أزال آثارها الطريق العام . وبجانبها سنديانة معمرة معروفة « بسنديانة الفرس » وكان بين القريتين المتجاورتين : جدبرا و عبرين خلاف وشجار قديمان على ملكية هذه الكنيسة. (۲) الضيعة : سميت كذلك ، لأنها اذا ترك تعهدها ضاعت . ٣١ من الأرض علواً وانخفاضاً … «وحارة التين»، و «حارة الكرنيش» (1)، وما إلى ذلك ! فالإنسان إنما يبدأ بتسمية محل إقامته باللغة التي يتكلم بها .. ثم يسمي بهذه اللغة الأمكنة الأخرى. وأسماء الأمكنة، في لبنان ، تختلف باختلاف لغات الشعوب التي استوطنت هذه الأرض ، وباختلاف الآلهة التي عبدتها. ويحد تاريخ هذه الأمكنة التسلسل الزمني لاستيطان هذه الشعوب (۲) (۱) في هذه الحارة محلة تسمى « بير الدبيحه » ومن هذه التسمية يستدل بان لفظة « كرنيش » تصحیف « کرونوس » « زحل » وهو اله يوناني : اله الزمان عندهم ويمثل وجهين : وجهاً الى الامام ناظراً الى المستقبل ، ووجها الى الوراء ناظراً الى الماضي، باعتبار ان الزمان يجمع الماضي والحاضر والمستقبل . وفي « بشعله » جبل يسمى «الكرنيش » كانت تقدم له الذبائح. (۲) من هذه الاعلام ، باللغة السريانية والعربية ، او بتوسط احداهما الاخرى مثلاً : راس نحاش ، كفور ، شوير، ميروبا ، عينطورا ، كفرحي، الهري ، الكوره . وباللغة اليونانية : طبرجا ، جربتا ، جونيه . الى جانب ما تسمى بأسماء الآلهة المعبودة أو أضيف اليها تبركا وتيمناً مثل : بعشتا ، بشري ، يجدرفل ، جديرا ، جبيل ، حدد الخ … ٣٢ *** في حارة التحتا ، وهي حارتنا ، وفوق بيتنا ، كان تنورٌ يحاذي الطريق العام، هو ملكية عامة لبيوت الحارة. والتنور كانون يُخبز فيه ، تكتنّ فيه النار الموقدة . هو حفرة في الأرض مستديرة في استطالة ، محدبة الوسط ، ضيقة الفم بقدر قطر الرغيف ، مطلية الجدار بملاط مخلوط بملح الصخر الملحقاق – الحافظ للحرارة (1) وحوله مقاعد حجرية تتوسطها بلاطة مستوية ملساء يحف بها حرف، تستحيل كلُّ فرَزْدَقة فيها تحت ضربات الأكف إلى رقاقة، فتهلهلها الخبازة بين يديها ، وتسلمها إلى الكارة ، وتلصقها بجدار التنور حتى تنضج . والكارة خرق جمع بعضها إلى بعض وشدت بخيوط، فتكورت مستديرة استدارة الرغيف المهلهل. (۱) في قضاء البترون قرية « تنورين » سميت كذلك لأن مكانها كان تنوراً لصهر الحديد ، والياء والنون لاحقة سريانية – وهي في العربية علامة لجمع السلامة. ٣۳ كانت جدتي ، ومثلها مثل خالتي وعمتي، عندما تنتهي من العجن ، وهي راكعة الى المعجن، تسم بغرب كفها اليمنى في العجين سيمة الصليب، ثم ترسمها بيدها في الهواء، في جهات المعجن الأربع. وكان الخوري، وما يزال، يرش الماء المبارك في الجهات الأربع من المكان. كنت أظن أن هذا التربيع يمثل أطراف الصليب الأربعة، مع أن التثليث في إشارة الصليب هو الغالب. وقد صحح التاريخ مفهومي فيما بعد . ذلك أن رسم الصليب في الهواء، في الجهات الأربع ، تقليد يعود إلى أوائل القرن الخامس. فقد كان لوحوش الغاب – فيما يروى – غارات ضارية على سكان هذا الجبل، تفترس كل يوم شخصين أو ثلاثة . وكان ٣٤ في جوار أنطاكية (۱) متنسك على العمود اسمه : « سمعان العمودي »(٢) فالتجئوا إليه ، فأشار عليهم ينصب صلبان من الخشب في الجهات الأربع من قراهم، فلا تدخلها الضواري ، فعملوا بمشورته، وكفت الضواري عن ارتياد قراهم. فكان لهذه الظاهرة تأثير كبير في النفوس. وما يزال في كثير من صخور هذه الجبال على حدود القرى آثار صلبان منقورة، والحوائل بين حدود الأرضين أكثرها صلبان.. *** ما ألذ سماع أصوات الأكف المتصادية : أكف الخبازات ، صبايا وعجائز ، وجلبة أصواتهن، ثرثرة (۱) مدينة على العاصي بناها سلوقوس الأول ٣٠٧ ق.م. فيها سمي النصارى «مسيحيين» لأول مرة. كرسي القديس بطرس قبل روما. بها سمي البطريرك : « بطريرك انطاكية وسائر المشرق ». مركز الحضارة والآداب والفنون الهلنستية. دمرها الفرس / ٥٤٠/ ثم الزلازل . رثاها الكاتب السرياني الكبير اسحق الانطاكي كما رثى ارمیا اورشليم. (۲) مات على عمود علوه ۲۷ متراً بعد ان تنسك عليه ٣٧ سنة وذلك منذ ١٥٠٠ سنة ، كان الناس يتوافدون اليه ، يأتونه برزقه ، ويتبركون به، ويسمعون نصائحه ، وهو أعجب رجل في التاريخ المسيحي. ما تزال بقية العمود ضمن آثار كنيسة في (قلعة مار سمعان) في الشمال الغربي من حلب. ۳٥ كانت ، أو منابزة ، أو مغامزة ، حسداً أو غيرة .. من تزويج فلان من فلانة، وغرام فلانة بفلان. والتقول على هذه ، أو تلك ، حتى أصبحت الخبرية التي لا يُوثق بصحتها ، ولا تُحمل محمل الصدق والجد «خبرية النسوان على التنور ، أو خبرية النسوان على الفرن» ..! وأنبل ما في أخلاق ناس تلك الأيام ذلك الكرم العفوي. فلا يمرّ مارّ على الطريق إلا مدعواً بالحاح، معزوماً عليه أن يأكل «سمينه سخنه» أو « رغيفاً سخناً» أو «مشطاحاً» (١) مضلّعاً بأصابع الخبازات ، كأنه بقية شعاع.. تقدم له بمروءة وروح ضيافة قروية سمحة .. وغالباً ما تكون نوبة الخَبز بين الغَلَسِ والضحى أو بين المغرب والغسَق ، لأن التثور قائم هناك تحت (1) سمي «مشطاحاً» لأنه مستطيل شاطح، غير مستدير ٣٦ خيمة السماء، بلا فيء ، ولا ظل .. وقد تستغني بعض البيوت عن التنور بالصاج وهو صفيحة من حديد رققت وكُوِّرت ورمدت من الداخل، توضع فوق موقدة، فهي إذن تنور البيت، وفرن البيت . والوقود دائماً الحطب ، قبل عصر البترول والمازوت والغاز. وما أنسَ لا أنسَ فرناً بجانب بيتنا، بينهما عرض الطريق، بناه والدي مضطراً تحت ضغط الحاجة، وعبء الظهر. كانت الدنيا تبدو سوداء في عيني من خلال سقيفته السوداء، كأنَّ عبء الحياة قد ألقي على ذراعَي تلك الخبازة المسكينة خالتي ، وفي فترة ما ، على ذراعي شقيقتي ، ليكون هذا الفرن أحد مغالق العيش بأجر أرغفة ، لا بأجر مال . وأقصى ۳۷ ما كنت أتمنّى ، أن يُمحى ذلك السواد ، فأمحى، ونهض في مكان الفرن بيت جديد.. ٣٨ حماقة أم خطأ! قم يا صبي ، وارع العجل الصغير ، فالعلف عندنا قليل ، هذه السنة . فأنا مشغول بتعمير « الهراويد » أي الأهدار والثغرات التي أحدثها السيل في جدران الجلول في «البطحا» . و «البطحا » أرض بطحاء في منقلب الجبل المواجه لقرية « إده » . بعضها تين وعنب ، وبعضها الآخر يُزرع حبوباً. قال هذا ، وانصرف إلى عمل يومه ، وليس في يومه عمل واحد ، بل أعمال عدة بعضها موصول ببعض .. قمت أنا ممتشلاً لأمره ، وقدت العجل الصغير ۳۹ الفاره إلى ( حارة التين » ، إلى مكان فيه كللأ يُشبع ويُسمن . المقود زنجير سلسلة ، في طرفه حديدة معترضة، وعلى مقدار شبرين منها حلقة صغيرة، أدخلتُ المعترضة في الحلقة فأصبحت أنشوطة في معصمي، غير مشدودة ، وحملت باليدين كتابي ، وتحت إبطي عجالة(١) من طعام . ومشيت أمام العجل. فجأة لاح في مرأى العين شيء أسود منشور على حبل غسيل أمام بيت كانت تسكنه امرأة (٢) يلعب به الهواء في كل اتجاه. أجفل العجل الصغير ورماني أرضاً، وراح يُجرّرني خلفه في الطرقات الحجرة ، وما زال بي حتى أفلتت الأنشوطة من لأحد (۱) عجالة : طعام المستعجل ، في مقابل «سندويش» ، وهو اسم احد أمراء القمار : كان لا يجد الوقت لطعام مستأن ، فيأكل وهو مستعجل واطلق اسمه على هذا اللون من الطعام. (٢) لطيفة ابنة الياس الحداد . ٤٠ معصمي ، فانشدخ رأسي في مواضع عدة، وفي أحدها شدخ بالغ، وانصبغت ثيابي بالدماء. أطلق العجل ساقيه للريح، ورجعت أنا إلى البيت معولاً خائفاً مستصرخاً ، فالتم الجيران على صراخي. ونادى أحدهم والدي من مشرفة ذلك الجبل المطل على «البطحا ». ولما أقبل وجدني أرتجف خوفاً ووجعاً. ولم يكن خوفي من جراحي قدر خوفي من والدي، فقد حملته ما ليس يحمل من نفقات العلاج ..! فما كان منه إلا أن عَمِدَ إلى ماء السليماني يُطهر به جراحي .. ثم التمس نبتة طيون (1) من أقرب مكان، وهي كثيرة المنابت في تلك الأرض، وقد كنا نصنع منها مكانس لقتل البراغيث، فدق أبي (۱) عشبة زهرها أصفر وأوراقها لزجة ذات رائحة ومنافع كثيرة . أو هي الطباق (بضم الطاء و تشديد الباء الذي منابته بلدان المتوسط وجبال مكة ٤١ أوراقها دَقاً أسال عصيرها، ووضعها لزوقاً على الجراح، ولفها بضمادات، حتى تبرأ ، وبقي فوق . جبهتي أثر عميق من ذلك الجرح . وشاع الخبر .. ونضنضت به الألسنة : «عبدو جرو العجل .. كيف ؟ ولماذا ؟! » نسيت جراح الجسد ، وآلمتني جراح النفس ..! هل أنا أحمق ؟ أم انتفى عندي سبق التفكير بما يمكن أن يحدث، وأنشوطة الرسن في معصمي؟ ربما صح ذلك، ولكنّ الأمر لا يعدو كونه تيسيراً لحمل كتاب أغتنم فيه قراءة أمثولة لئلا يضيع الزمن في الطريق بين البيت والمرعى. وأفدت من التجربة .. والذكاء هو الإفادة من التجربة، وفي ازدياد التجربة ذكاء يزداد. ومن ثم صرت أمكن لرجلي قبل أن أخطو، جاعلاً عقلي وراء قلبي، وخلف لساني، أزن الأمور بميزان الخير والشر ، على نحو ما أفهم ٤٢ الخير والشر لي ولغيري . وكنت كثيراً ما أخطىء، لأني كثيراً ما كنت أعمل . وقبل أن أعرف « اينشتين » (١) القائل : « كلَّما أسرعت الحركة أبطأ الزمن .. » كان الوقت عندي ثميناً لا يعرف فراغاً ، حتى هوايات الفراغ ، أو غواياته ، لأنَّ وقت أبي مشحون عملاً موصولاً لا يعرف فراغاً أو بطالة ، ولو أَنَّ مَلءَ فَراغِهِ غير ذي ثمن . فكنتُ في نموّ حركي دائم . وفي الحركة النامية بركة الطفولة في عالمها العابث البريء ، وبركة الرجولة في عالمها الهادف المثمر.. (1) ألبرت اينشتين (۱۸۷۹ – ١٩٥٥) فيزيائي اميركي واضع «النظرية النسبية الخاصة» ثم « العامة » في الزمان ۱۹۱٦ ، نال جائزة نوبل في الفيزياء ۱۹۲۱ ٤٣ |
















































































































