اوراق لها تاريخ- الاول

أ . طانيوس منعم



أوراق
لها تاريخ
الأوَّل
©جميع الحقوق محفوظة©






تقدمة



 
إِلى الغائبةالحاضرة
في وجداني
لأَنَّها من مآسِيَّ
 مأساة
 
 إِنسان
إِلى شقيقتي
 
أ.ط.م.
 





تمهيد



 ونثري كشعري
تعبيرٌ عن انفعالٍ بأحداث أَلتزم حيالها بموقف
وهذه أوراق
كتبت بتأثير أَحداثٍ ومواقف، في تواريخ متباينة
مختارة من مجاميع بعضها سيرى النور تباعاً وبعضها الآخر يظلّ في غلاف الظلمة إلى يوم يصبح أَبناءُ النور في سيادة سائدة، ومنِعة مانعة
لقد كان، في ما أفكّر وأَكتب، مظنّةُ خطإ، أو ضلال
وربما كان الخطأ، أَو الضلال
صواباً جاء في غير أوَانه
ويبقى كثيرٌ مما كتبت
فليستترْ إذن
حتى مجيءَ أَوانه





خطاب الى « دي مارتيل » (1)



من تحت زيتونة القرية، في ساحة الكنيسة، وقد تجمَّع الفلاّحون الفقراء إِلى ظلِّها الوارف، بعد صلوة، يتناقشون في أمور حياتهم وعيشهم كمألوف عادتهم، في كل أَحد
يخاطبونكم مخاطبة مظلوم ظُلِم، لأَنَّ حكامه ينصرفون عن شئونه إِلى شئونهم، وهي على صعيد السياسة انتفاع، وعلى صعيد الأَخلاق مباذِل
وإنَّنا لَنتساءَل: هل يتغير ما نحن فيه من بؤس وفقر، لأَنَّ « مفوَّضاً سامياً » جديداً يلي الأَحكام فينا، ويؤلف « حكومة جديدة »، جديرٌ بإِصلاح حالنا، وتأْمين وسائل عيشنا 
ونتساءَل أَيضاً: هل « المفوَّض السامي » الجديد ممَّن يُفزَع إِليهم في الشدائد، ويُرجع إِليهم في الرغائب؟
هل يُولي قضية الفلاحين والزرَّاع اهتماماً جدِّياً، فيُشبعها درساً، وبالتالي يقترح لها حلولاً  ويتعرّف تعرفاً مسئولاً بما هم فيه من ضروب الإِفقار ، ومن ضرائب تُجبى من أَعراقهم، تحت أَلفٍ من الأَسماء: من ضريبة المُسقَّفات  إِلى ضريبة الغابات  والماعز، والخمور، والصخور، والطرقات وما إِلى ذلك  حتى بتنا، على ما يشبه اليقين بأَن الحكومة المسمَّاةَ « حكومة الإِصلاح »  لا تُصلح غيرَ جيوبها، ويبقى الفلاح في لبنان نهباً مقسَّماً بين ذوي النُّفوذ، وأَصحاب البيوتات، وسلطات الانتداب
لقد سُدَّت علينا السبُل، وانحصرت مواردنا في بيوتنا والزوايا، والحكومة ترقص على أَشلاءِ « أَبنائها » لهواً وعبثاً، دون أَن تأخذها بهم رأْفةٌ أَو رحمة
لأَربع عشرةَ سنةً خلت من انتداب فرنسة على لبنان، ونحن في حقل من تجارب الحكم، وبين براثن النزعات والنزوات
أَلويل يجرّ الويل، والأَزمةُ تلي الأَزمة مورد الحرير يتلاشى نفساً في نفس ومورد التَبغ بين يدي مؤامرة احتكارية ماحقة  وموارد إِنتاجية أخرى تلهث تحت وطأَة الاستغلال الوقح المقيت
يأمل اللبنانيون من فرنسة، وقد وُلِدَت على يَديها حقوق الإِنسان، أَن لا يدفِنَ « مفوَّضوها السامون » هذه الحقوق في أَرضٍ طيِّبة، وقد اعتبرها أَهلوها الامناءُ « أماً حنوناً »  تحدب عليهم، وتسوسهم سياسة الحق والعدل، كيلا يفقد البلدُ الذي أَحبَّها في الأَمس، هذا الحبَّ، على أَيدي ممثليها في ممارسة الحكم، ومسئولية الانتداب
لبنان – وزُرَّاعُه وفلَّاحوه ثراؤه في ثراه – يرتقب بكم عهد تطورٍ جديد، بعد أَن ودَّع عهداً مضى في سلَفٍ لكم لا نذكره إِلا بأَنَّه من السالفين
وعسى أَن يكونَ الخلَفُ خيراً من سَلَف وإلا فنحن شعب صبور وفي الصبر فَرَجٌ أَو انفراجٌ  وغدٌ لا بدَّ في فجره من أَضواءًٍٍُُ على التاريخ مرآة العِبَر، وفاضحِ الأَكاذيب 
نحنُ فلاّحي هذهِ القرية من بلاد البترون، نعيش بين صخورها في مأساة من فقر، وتخلُّف مواردنا لا تكاد تفي ببُلغة، وتُبقي على رمق نقول هذا بحق صارخ، وحقيقة جارحة وسواءٌ لدينا مُتنا جوعا، أَو متنا اضطهاداً، يظلّ عزاءَنا الوحيد كونُنا نُصِرّ أَن لا نموت جبناء





أَن يمُرَّ مِن هُنا
 



هناك
في منحدَر الأَكمة فلاح سبق الشمسَ إِلى عمله
وفي الحرشاءِ الضَّحوك قطعان ترعى وتستجمّ وصوتُ شبابةِ الرّاعي، يَتصادى في الأَودية
هناك
مياه العين تستقبل الواردين صباحَ مساء، وتترنَّم منسابةً بحرية، مع أَجواق الطيور الأَحرار
أَلأَشجار في تبرُّج
والأَرضُ في رداءٍ مُطرَّز
أَنَّى التفتَّ ترَ الطبيعة ضاحكة ساحرة، حالمةٌ، في غفوة اليقظة، بمحاسن أَيار، تدغدِغها نسمات ناعمات، من أَنفاس الصباح وتنهّدات المساء
هي هدأَة الربيع، بعد ثورة الشتاءِ وهل بعد الثورة العاصفة غيرُ الهدأَة الساكنة، تبرز فيها الطبيعة والشعوب  باسلوب من الحياة جديد؟
أَطلَّ الربيع طَلْقَ الوجه، هادِئ الأَعصاب، في إِهابه شباب زاخر، وفي قسماته فتون الجمال
لأَسارى الشِّتاءِ بُشرى سارّة، وقد انطلقوا من أَكواخهم يتتبَّعُون خطا الربيع في الأَودية والجبال، في الحقول والمروج إِلى مساهرة النجوم، ومداعبة الأَزهار، إِلى تنسُّم العطور، وشمِّ الورود
الحياة في مهرجان بعثها الجديد، وقد نفضت عنها أَكفان التراب
 
هوذا أَيار
في صدور الفتيان أَزرارٌ منه نَدِيّة
وفي أَنامل الصبايا طاقاتٌ منه إِلى المعابد والبيوت، هدايا نفوس عذراءَ إِلى البتول العذراء
في ظلال هذه الطبيعة الساحرة وبين تلك الصخور الناصعة كجبين الثَّلج، ينشأُ القَرويّ متأَثراً خطا آبائه، ونهج أَجداده، وقد سكنوا هذه الجبال، فاتَّخذوا منها صوامعَ حصينة عكفوا على الأَرض يستخرجون دفائن الكنوز يفتّون الصخور، فتتحول في أَيديهم تراباً، ويعالجون التراب فيغدو ذهبا
عاشوا بخيرات هذه الأَرض، على قِلَّتها، قانعين، صابرين والقناعة بواقع الحياة، ما دام الإِنسانُ جاهلاً وسائل تغييره، سعادةٌ وغنىً 
حياة يحياها القروي، مالئاً أَيامه، ولياليه، عملاً وكدحاً وأَناشيد، قريباً من رَبِّه، حادباً على عيلته دِرعُه الفضيلة والصبر، وراحة الضمير
جميلة هذه الحياة -جِدُّ جميلة- لولا شوائب الجهل والتأَخر
وما كان أَهنأَ القرية، وربيعَ القرية، لولا هذه الشوائب
 
في أَكفّ العامل والفلاح رخاءُ الاُمَّة، وحياة الوطن وكُلُّ ثراءٍ يبقى ناقصاً إِلى تمام، بغير عرق العامل، وجهد الفلاح
العمل شرف أَصيل ينكفِئُ عنه ذلك « الشرف » القديم الموروث
هو الطاقة الزَّاخرة الفاعلة في الكائن الحيّ، منسابةً على الجبين عرقاً يُروي، ولُقمةً تُشبع
إِنَّ الأَيدي الملوَّثة بالتُّراب لهي أَشرف من المزيَّنة بالحِليّ والخواتم
والجسومُ، في عرقها الصبيب، تحت أَشعة الشمس أَكثر جلالًا منها مضمّخةً بالطيوب، غارقة في سُرُرٍ مُنيمةٍ من الكسل والخمول
 
أُسلوب الحياة عند القروي بسيط، وشاق
يقنع من الشتاءِ ببرده وعواصفه، ومن الخريف بجفافه وذُبوله، ليلقى في الربيع أَمله الأَخضر، غنياً بالزُّهور والطيور، وقمر الليالي، بالمياه الهاربة إِلى البحر، دون أَن يملك من الحيلة ما يُروي أَراضيه العطشى القاحلة
هذا هو ربيع القرية
وهذه هي حياة القروي ؟
ولا بدَّ لموكب التطور أَن يمرّ من هنا تاركاً على هذه الشوامخ بعضَ نعمائه -أَو كلَّ نعمائه-، والقَرويّ كغيره من النَّاس جديرٌ بإِعجال هذا الموكب
1934





فُرنُ القَرية



حول بلاطة مستديرة، أَو مستطيلة، مجلسٌ للقيل والقال
سخافات
اغتيابات
أَحاديثُ بليدة خرقاء
تتواثب من أَلسنة النساءِ، في الفرنحتى لَيُطلَقُ على كل نبإٍ غير وجيه، وغير صحيح، وغير صادق،َ يستطير بين أَهالي القرية، أسمَ « خبرية على الفرن »
ومجلس الفرن في القرية كمجلس النُّواب في الأُمة
ذلك يتدارس شئون القرية بقيلها وقالها بمقاييسها وأَوزانها  واعتباراتها
وذاك يتدارس شئون الأُمة بشرائعها، ومشاريعها وكثيراً ما يتشابه المجلسان في ما نسمِّيه « خبريّة على الفرن »(2)
مثلٌ شعبىّ مأثور
وأَمثال الشعوب، على امتداد العصور، نُطقٌ سائر، بعاداتها وتقاليدها، ومعتقداتها، وتجاربها، وتعبيرٌ عما هي عليه من فكر وأَدب واجتماع
وهي تختلف في شعبٍ عنها في آخر وفقاً لمعطيات هذا الشعب، أَو ذاك
 
أَلاجتماع بطبيعته من دواعي الكلام فحيثما اجتمع اثنانِ، أَو أَكثر، كان بينهم حديث عمَّا يجولُ في الأَذهان، يطولُ أَو يقصر، تِبعاً للبواعث الكامنة، والاهتمامات المثيرة
وحديث المرء صورُة شخصيته
ولا غرابة، بعد ذلك، أَن تكون « خبريةٌ على الفرن » صورةً لشخصية المرأَة القَرويّة فهي محدودة الأفق، لا يتخطَّى ذِهنُها مدى الحوادث الجارية في بيوت الجيران، ولا يتَّسع لغير بيوت القرية وما سوى ذلك من اهتمامات لا قِبَل لها باحتماله
ومكان اجتماع النساءِ في القرية، عادة، هو الفرن فأَيّ موضوع، ترى، يفرضه هذا الاجتماع على نساءِ الفرن، غيرُ القيل والقال، أَو ما يُشبه ذلك من غمزٍ ولمز ونَبْز، وتخريف  ما دُمنَ في ذهنيّة كهذه جاهلة، ضيقة، محدودة ؟
قد يُصبح الفرن -كما هو الآن- أَثراً من آثار الماضي ولكن يَظلُّ لمجلس النساءِ القرويات محتوى أحاديث ذلك الفرن، ومضمونُ أَحكامه ونظرياته، ما لم تبلغِ المرأَة القروية مستوىً من العيش والثقافة والحرية يثير فيها اهتماماتِ راقية مفيدة صادقة اهتماماتِ إِنسانة تعملُ وتفكِّر، لا أنثى تثرثر
وما بالُنا نظلم المرأَة؟
فإِننا كثيراً ما نسمعُ من الرجل أَخباراً، وأَحكاماً، وأَحاديث طنَّانة رنَّانة فارغة، ك « خبريةُ النساءِ على الفرن » 
1936





أ يّهَا الكاهِنأخي
 



سلام الله عليك
هذه عجالة لك من أَخيك في الإِنسانية والدين يسوقها إِليك، بعد أَن وسَمَتْه يدُ اللّه، بسنةٍ واحدة فإِذا هو، كما أَنت، رجل معبد، في قدسية الخدمة، وجلال الرسالة
وما كان لهمامته أَن تنحني ليد، لولا ما اعتمل في سريرته من توقٍ إِلى الرسالة، أَو ما حسبه رسالة، تتأَوَّج فيها روح الإِنجيل، ومكارم الأَخلاق
ولك، بعد ذلك، أَن تسمّي هذا الذي تُقْتُ إِليه دعوةً، أَو تطوُّعاً دينياً حراً، في عبادة الجمال الإِلهي في الإِنسان وَجْداً تطرَب به ذاتي الموزَّعة في ذوات
وما كنت لأَجرُؤ أن أَرمي حصاةً في هذا البحر الساجي، وأرتقب ما تحدثه من دوائر قد تتعاظم تياراً لا قِبَل لي باتَقائه، وأنا بعد حديثُ عهد بالتجربة، لولا يُمن نقيبتي ونقاءُ إِيماني، أو إِذا شئت فقل: بساطة إِيماني
ولعلي واهمٌ أَن تحمل قولي هذا محملًا حسناً، فلا يكونَ رقما ًعلى ماء، أو صرخةً في عراء
وربَّما تعتبرني في ما أَقول، مبتدعاً، لا مُبدعاً لانحرافي عن مألوف ما اتُبع من عادات، ومظاهر أَوهام
ولا لومَ عليك ولا تثريب، لأن الفكر إِذا تخطّى المأثورَ من الأَفكار هو بِدعة
أَليس الفكر الحرّ، في مدى ما عرف البشرُ من تاريخ، هو في مولده بِدعةُ وعْيٍ في أَفراد، ليصير في معترك الاضطهاد والكفاح إِبداعَ جماهير؟
أَليس « الحجرُ الذي رذله البنَّاءُون صار أَساساً للزاوية » ؟
إِستقرِئ معي تاريخ الفكر البعيدَ والقريب فماذا ترى؟
أَلا ترى أَنَّ الذين أَنكروا فكر المفكِّرين في قرن، أَو بعض قرن، وقادوا أَصحابه إِلى المقصلة، يتهافت أَبناؤهم، أو حُفَداؤُهم، على استساغة الفكر البِدْعة، لأَنَّ التاريخ قد فرضه فِكرَ الإِبداع؟
أَلم تكن الأَيدي التي صاغت ل « غاليلو » تمثال الإِجلال والإِعظام هي حفَدَة الأَيدي التي ساقته، رابط الجأش، إِلى محكمة التفتيش، إِهانة وتحقيراً، لأَنه كافرٌ في الكافرين؟
أَسوق بعضَ هذه الشواهد، لاخفَف عنك ضيقَ نفسك، وأُنيرَ ببعض الضوءَ مطاوي وهمك، في رِفق، للوقوف بشجاعةٍ، فوق أَرضٍ صُلبة، كيلا تغرَق قدماك في وحول التُّرَّهات والأَوهام 
 
خُذْني بحِلمك
وأَعرني سمعك، وانتباهك، بانفتاح متسامح على حقيقة تبتَّلْنا لها، وزهدنا لا يُرقى إِليها شكُّ العقل
 
الله وحده هو الحقيقة، في وجودها المطلَق إِنَّها تجربةُ الإِنسان متديِّناً في هيكل وجوده، منذُ وجوده
وشرائع الدين، هي في واقعها المتطوِّر نواهٍ أَدبيةٍ، اجتماعية، تَنشد، في جوهر ما تَنشُد، كمال اللّه في خَلق اللّه في الإِنسان المخلوق على مثال الخالق كمالاً وجلالاً، بمقدار ما يُدرك عقلُ المخلوق كمال الخالق
هذه الحقيقة المطلقة واحدة، عند جميع الامم والشعوب، مهما اختلفت معبوداتها
إِذن إِيماننا العاقل بهذه الحقيقة السرمدية غيرُ ذي موضوع للحوار والمناقشة، من وجهة نظرنا نحن، على الأَقل
أَما الشَرائع والمراسم والقوانين والطُّقوس، فليست غير حقيقة نسبية، تدور في منازلها من الحقيقة المطلقة، وتخضع لها، لِأَنَّها إِحدى القواعد التي يَنتظم بها المجتمع الفاضل في علاقات الإِنسان بالإِنسان، على نحوٍ يتجسَّدُ فيه كمال الله في الإِنسان
وكلَّما تطوَّر المجتمع البشري فكراً، ووسائلَ عيش، وظلَّتِ الشريعةُ هي الشريعة، متقوقعةً في جمودٍ عقائدي صارم، دون أَن تُنقَّى مما تراكم على روحها وجوهرها من قشور، أَصبح الناسُ – ونحن منهم – يتطايرون بريش خيالٍ فارغ، دونما رسوب إِلى الحقائق
ويعني هذا، في أَبسط تعبير، أَن وَلاءَنا للرسالة التي نمشي بها في الناس، مَشاعلُ هداية، يقتضينا التفكيرَ النيِّر، والعملَ الجماعيّ الصامد، في إِطار تنظيمٍ ما -سَمِّه نقابياً- إِن شئت، يجمعنا نحن صغارَ الرسل عسى أن تتصادى أَصواتنا، فتخلق مُناخاً قابلاً لما نطرحُ من أَفكار التغيير والتجديد ويكفي أَن يُحدث عملنا هذا الرصين ثُلمةً في الجدار، حتى يكون للروافد المتجمِّعة قوةُ الهدم، وقوّةُ البناء
 
مِمَّا أرى وجوب طرحه، الآن، وعلى نحوٍ مُلِحّ، وأنا بعدُ حديث عهدٍ بالرسالة، ضمانةُ العيش، ليستقيم شرفُ الرسالة فليس الرسولُ متسوِّلاً يتكفَّف باسم العمل الرسولي يرتقب موكب الجنازة ليلتقطَ من على المقابر بُلغةَ العيش ؟
لسنا نسوراً تتسابق إِلى مطارح الجثث إِنما نحن حمائمُ تهدل بين الناس، كلَّ الناس، هديل التفاؤل والخير، وفي رفيف أَجنحتها نواسمُ السلام، وصالحُ القُدوة، وطيب الأُحدوثة
 
ما حضرت مرةً جنازة، أو قمت بخدمةٍ رسولية، إلاَّ شعرت بأَني كبيرٌ صغيرٌ في آن، عندما أمدُّ يدي الموسومة بطهر الميرون لقبض جُعالة مادِّية ثمناً لعملٍ روحي وإِن سمَّيتَ هذا الثمن « حَسْنة » فقد وصَمْتَ نفسك بالتسوُّل على أَيِّ حال
ولكنِّي – وأَنا الان مضطرٌ إِلى القبول بهذا الصغار، لسدِّ رمق، سأَراني يوماً رافضاً له، لا تظاهراً للناس، أَو كسباً لمديح باطل، وإِنما احتراماً لشرف الرسالة، وقداسة الكهنوت، ونزاهة الرسول
هذا الرفض الذي يساورني، سيساوِرك أَنت أَيضاً عاجلاً أَم آجلاً
فلنفكر إِذن بضمانة العيش الشريف لنضمن للرسالة شرفَها الأَصيل
وهنا سوال يطرحُ نفسه: أَصحيحٌ أَنِّي عندما قبلت الدَّعوة قبلت معها الفقر، لأَنَّ الفقر فضيلةُ السماء؟
عجيبٌ هذا المنطق
من قال لك هذا؟
أَلا تجد فضيلةُ السماءِ مكانَها المفضَّل في غير جيوب الصغار من المرسلين؟
إِن لفضيلة الفقر معنىً غيرَ هذا الذي نحيا إِنها نفيٌ لرذيلة: رذيلةِ السعي المحموم لاقتناص الثروة بحقٍ وبغير حق نفيٌ لشهوة الإِثراءِ على نحوٍ يكون فيه العمل الرسولي، أَو السلطة الرسولية وسيلةً من وسائله
إِذن لنفتِّش عن الضمانة لتبقى للرسالة ضمانةُ الاستمرار  الضمانة موجودة حقاً، ولكنَّها مسلوبة
لِنقبضْ على السالبين
 
أُسكت  أَطِعْ   لماذا أَسكت؟  لماذا أُطيع؟
إِني أَرفض باقتناع، وأطيع باقتناع
إِذا رفضت عناداً فهذا رفض الأَطفال، وإِذا سكتُّ، وأَطعت، خضوعاً وخنوعاً فهذه طاعةُ العبيد
ولا بدَّ من يوم يأتي، لن تكونَ فيه الطاعة طاعةَ عبيد، بل طاعة أَحرارٍ يجادلون، ويحاورون مَن هم فوق، لأَنَّ الكلمة العليا ستكون في النهاية، لِمَن هُم تحت 
 
في معاناتي الحياتية البائسة، وأَنا ابن فلاَّح كدود من الفجر إِلى النجر، يجني قوته الوضيعَ بعرقه، في قرية متخلِّفة، فتأكل زنابيرُ الدولة شهدَه وعسلَه، بأَلف وسيلةٍ ووسيلة
في هذه المعاناة الجاهدة لا مندوحةَ لي، ولك، ولنا نحن صغارَ الرُّسل، عن الانغمار في عمل وطني يتجلَّى فيه الوَلاءُ للوطن قبل
الولاءِ للدين، أَو الطائفة
فما من سبيلٍ إِلى الخروج من أَوضاعنا الدينية المتردّية بغير الخروج من أَوضاعنا الوطنية المتردِّية هي أَيضاً
وتؤلمني نغمة ناشزة عن سمعي، لأَنها ناشزة عن حياتي، فأَضحك منها في سرِّي وأَتحدّاها في سلوكي هي نغمة العزوف عن السياسة التي لا شأن لنا فيها -كما يزعمون- حين نرى من هم فوق غارقين في السياسة –سياسة منافعهم وامتيازاتهم- حتى الاذان
هذا الوطن الذي نعيش فيه  كيف نعيش فيه، ولا يكون لنا رَأي في سياسته الوطنية والاجتماعية لا الطائفية
إِن انتمائي إِلى وطن لأَكثر شرفاً لي من انتمائي إِلى طائفة والوطن المصنوع طائفياً، والمحكوم طائفياً، والمَسُوس طائفياً، وطن متداعي البناء، يحمل في أَسباب وجوده أسبابَ فنائه
أَنا، يا أَخي، لبنانيّ عربيّ، قلباً ويداً ولساناً وأَنت مثلي
أُخاطبك بلسانٍ عربي، وأَمدّ إِليك يداً لبنانية عربية وفي التآصُر، قلباً ويداً ولساناً، قوة التغيير لما نعاني من ظلامات على صعيد الوطن، وعلى صعيد الدين والطائفة؟
ولن يمرَّ طويلُ زمن حتى نصبح أَسياد وطننا نصنع له، أَحراراً متَّحدين، ما تقتضي الحرية والسيادة من شرائع وقوانين، وأَنظمة، وما يقتضي الدينُ -لا الطائفة- في أَصالة معناه، من تَنْقِيةِ ما شابَهُ من صنميّة التقاليد، وتقاليد الوثنيّة
وتُصبح لغتُك لغةَ كنيستك، في مراسم عبادتك، هذه اللغةُ التي نتفاهم بها في القرية
والشارع والبيت والمعمل، لأَن اللغة التي تسود هي لغةُ قوم يحيَون سادةً في مجتمع، لا لغةُ قوم أَمواتٍ في مقابر
 
قد يبدو قولي هذا غريباً عنك الآن لأَنَّ الوعي الوطني الَّذي يستتبع وعياً دينياً لازماً، غائم في ضباب طائفي كثيف، يسدّ عليك منافذ الضوء، فترى الدنيا جامدةً من زاويةٍ تقف فيها، اعتدتَ أَن تنظرَ منها ما اعتدتَ أَن تنظر
أَلا ترى معي أن الحياة الاجتماعية السليمة العادلة لقوم متساوين في الحقوق، وفرص العيش الرغْد، هي لهم وطنٌ في حدود وطن، وهي لهم أَيضاً دين في ضمير دين؟  ونكون نحن، في آنٍ معاً، رجالَ وطن، ورجالَ دين
إِن الرسالَة التي وُسِمْنا بها وسماً كهنوتياً
مقدساً ليست مقصورة على خدمة المذبح في الهيكل ثم لِيكنْ ما يكون، وما سيكون
إِنها وظيفة وطنية اجتماعية في إِطارٍ ديني يتغيرُ ويتبدّل هذا هو منشؤها في تاريخ الديانات السابقة للمسيحية
لقد اضطلع كهنة « سِبْتِيبَعْل » وَكَهَنَة سِيْتُون(3) وأمثالُهم من أَمثال هؤلاء المؤلَّهِين، بسياسة مجتمعاتهم وإِدارتها، في إِطارٍ من الدين مرهُوب، تنظيماً لعلاقات الناس بعضِهم بِبَعض
فما نراه في مجتمعاتنا اليوم من وظائف سياسية وإِدارية: من وزاراتِ وبلديات من علوم زراعية واقتصادية ومن أُصول محاكمات، وما إِلى ذلك إِنما أَنشأَه الكهنة، ومارسوه رسالةً ووظيفة
لا أَهدف من ضرب هذا المثل التاريخي، إِلى دعوة رجال الدين للحكم فلقد مضى زمانُهم وذهب رجالُه ولكني أَستضيءُ به شاهداً تاريخياً على وظيفة الكهنة في وثنيّتهم، لرسم الصورة الإِلهية المضيئة للكهنة في حقيقة مسيحيَّتهم، وفي نقاوة الرُوح النابض في سطور دستورهم العظيم وفي ما بين تلك السطور
أَما الحرفيّة الجامدة، في أَيّ نصٍّ ديني فلم تكن تَبِعتُها يوماً على النصّ، بل على الذين جمّدوا النصَّ لنفع لهم في حرفيّته، لا في دِلالته وروحه
 
لست متشائماً، وإِن كانَ في التفاؤلِ بعضُ التشاؤم  ولكني، ليلاً إِلى نهار، في محاكمة عقلية صابرة لما ينبغي لي أَن أَعمل، وما لا يجوز لأَحيا، كما أُريد أَن أحيا، في وفاقٍ مع وعيِي ديناً، ووعيي وطناً وبين الاثنين، كما أَرى، مثلُ ما بين السبب والنتيجة
ولكن، ما حيلتنا في مَن لا رأْي لنا عندهم لأَنَّ رأْيهم في أَنفسهم وأَوامرهم فوق الشًُبُهات؟
لنمضِ في تصميم
لقد نصبْتُ على دربي صُوى الهداية وخطوات في وَعْثائه، خطوتي الأُولى، بشجاعةٍ أَحياناً، وبتَقِيَّةٍ أَحيانا
وأَلمحُ في البعيد البعيد، في آفاق الدنيا، بصيصَ نور، يستبينُ لي في غد -أَظنه غير بطيء- شموساً تبزغ، في حركة جماهيرية واعية مؤمنة وفي مجامع مسكونية تُعقد -على غرار سابقاتها- تحت ضغط الوعي النابض صُعُداً، في عقول هؤلاء الصغار الكبار من المرسلين وفي قلوبهم
فيذوب الجليدُ، حينئذٍ في كنيسة المسيح الجامعة، من القِمة إِلى الَقاعدة
ولكنَّ الشعلة التي تستطير منها النار لا بدَّ لها من أَيدٍ متعاقدة والتاريخ إِعانةً له على التطور، لتستَديرَ النارُ بعدئذٍ، في الهشيم، استدارتها اللاَّهبة
إِننا على الطريق ولو طالت المسافة 
1936





عبدٌ لِماَ ألِف



أَفَقْت على نهيقه ذات صباح، من عرزالٍ مشرفٍ علىسطح، وقد ضرب الأَرض بقائمتيه وتقاعس محاولاً قطع رسنه  ساعياً إِلى غرضه، مفتشاً عن مرجة خضراءَ، يرعى فيها ما شاء، بعد أَن نهكه التعب يوم أَمس، وهو فارغ البطن، معقورُ الضَّهر
تفلَّت من قيده قَطَعَ القيد
تحرَّر من رِقّ صاحبه، ذلك الذي أَجاعه ليشبع، وأَضناه ليرتاح كلما ارتفع صوته بالرحمة، أَخرستْه الشِّدةُ بالسوط
ضاق صدرُه من ولِيِّه، فهام على وجهه،
تارةً يرعى، وطوراً يتمرَّغ، نافضاً عنه غُبار الطاعة، وحمأَة التقاليد وعبودية الشرائع
وإِنه لكذلك، إِذ نصب أذُنَيهِ، في إِرهافٍ، لصوت أَخٍ له قريب، كأَنَّ للأَلم والشكوى لغةً يتفاهم بها الحمير، فزعق إِليه خاطفاً كالسهم وهمس في أذُنه بما همس
فعل كلَّ هذا ثم عاد إِلى حيث مربِطُه، إِلى معلفِه المكنوس إِلاَّ من بقايا جذور لا تُوكل قانعاً -كما كان- بما أَلف من قيود ومهانة، واعتاده من جوع وكدِّ وعناء 
الحيوان عبدٌ لما أَلف
فهل يظلّ الانسان عبداً لما أَلِف؟
1937





غُربَة وَ بَلاَغ
 



هي ليلة شامِيّة من ليالي الشتاء  أَلطبيعة تزفر زفيراً بارداً تصظكُّ له الأَسنان والرُّكَب  فما استكانت عاصفة، ولا هدأَت ريح
لجأت إِلى غرفتي أَتحصَّن وأَرتقب، وأَنا إِذَّاك أستاذ في مدرسة  مدرسةِ مُرسَلِين
قبعت في تلك الغرفة، وقد قاسيت سنةً وبعضَها، ضروباً من الآلام، لرطوبتها وسوءِ مُناخها أُعِدُّ حقائب السفر إِلى لبنان، مُبعداً عن منبر التدريس بأَمرٍ من السلطة الفرنسية
بَلاغ  تبلَّغته وفوجئت به فيما كُنت أُفكر بالتوسُّل إِلى الإِدارة، لإِمضاءِ عطلة الميلاد في المدرسة، خلافاً لمألوفها، فاستحال توسُّلي إِليها إِلحاحاً عليّ بوجوب مغادرة الشام، شقَّ الفجر وإِلا يكن مصيري « سجن القلعة »
وشدَّ ما كان استغرابي لهذه البادرة المُلحّة، ولم أَجترمْ جريمةً أَستحقّ عليها الإِبعاد
أَجل  كانت لي مواقف وطنية، في مناسباتٍ مختلفة وكانت لي آراء نشرْتُها في صحف دمشق، ولكن باسم مستعار (4)
وكانت لي وثبة عاطفية بالغة، يوم وثب لبنان وِثبته التاريخية وأَلغى نصَّ الانتداب من دستوره
وما كنت أظنّ -وربما كان ذلك سذاجة- أَنَّ عاطفةً وطنية تهزّ لبنانياً عربياً في الشام،
لأَن وطنه تحرر من رِق أَجنبي، جريمةٌ يُعاقبُ عليها؟
لا أَكتم أَني كنت أحِسّ في دخيلتي قلقاً  فحرصت، ما وسعني الحرص، على خاطري من أَن يُفيض بما يَمَسُّني، تقيَّةً، لا خوفاً وعلى لساني من أَن تُفلِت منه كلمات أَحسَبها أَنا حقاً، ويحسَبها الانتدابُ باطلاً
فلم يكن لي مكانٌ أَنتجعه غير مكتبات دمشق، أُجالس فيها، على طريقة « ديكارت » أَشرف الشخصيات الماضية
ولكنِّي ما برحت حذراً من أَن يُوقعَ بي بعضُ صغار النفوس  ولم ينفِ الحذر حكم القدر
بَلاغ 
ما آلمني منه إِلا أَنه جاءَ ماسّاً بحاجةٍ مِلحاح، لم يسلم منها، في تلك الظروف الصعبة، غيرُ أَبناءِ الثراء، وذوي الجاه والسلطان وأَنا -كما أَنا- وُلِدت وفي فمي حَبَّاتُ تراب، لا ملاعق ذهب
ما العمل؟  هل من ضمانة؟
هل من نِقابة لهؤلاءِ الذين يذوبون بنار العمل الجاهد، لتضيءَ شعلةُ المعرفة غياهب الجهالة
بل أَين كرامةُ من تبتّلوا لرسالة، حسبوا أَن كرامتها في اسمها، ومعناها؟
أَسئلة؟
بلا أَجوبة؟
جواب وحيد ظلَّ يتفاعل في داخلي، ويملك
علي قناعتي
جوابٌ وحيد  هو شعوري بالإِباءِ العربي والكرامة الوطنية
 
يمَّمت لبنان وجهَ الفجر، ناصع الجبين، عزيز النفس ودفنت أَلم الحاجة على الحدود، بين الثلوج والعواصف
تبقى قصتي الطريفة المخجلة في لبنان مع « معتَقَلي راشيّة »  فلها مع الآلة الطابعة موعد آخر
من طريف ما أَذكر، وفي ذكر بعض الأَلم بعضُ الطرافة، تلك الغربة الموجعة التي أَحْسستُها بين آباءٍ مثلي، إِن افترقت عنهم لغةً ودماً ؟  فقد جمعتني بهم وظيفة، ودرجة ودين، فضلاً عن كوننا بشراً
شيءٌ وحيد كان يربطني بهم هو العمل كأَنَّنا هناك لنعمل ونعمل فقط وبأَجرٍ زهيد
هذا الأَجر الزهيد كانت تمتصّه منا نفقات السفر إِلى حيث نريد أَن نُمضي عطلتي الميلاد والفصح فنحن مُجبرون على ترك المدرسة، لأَنَّ ذلك عادةٌ عندهم، والعادة عندهم قاسية لا تلين، كما أَنها لا تُحِسّ
وتعليل هذه العادة، في الواقع، توفير
توفيرٌ على صندوق المال ولكنه، في ذات الوقت، استنزافٌ لدُرَيهِمات نحصّلها بشق النفس، ومواصلة العمل ساعاتٍ كثيرة، نهاراً وليلاً، لنُنفِقَها هكذا
أُجوراً بين بيروت ودمشق أَو في فنادق دمشق
ولكن، ما العمل؟
لاحيلة في ما لاحيلةَ فيه
 
حدث أَن أُصِبْت قبل سنة بمرضٍ موسمي سَرَت عدواه إِلي من تلامذةٍ مصابين (5) فضاقت المدرسة، على رحابتها، عن استيعابي
أَجل نضب معين الرحمة في القلوب  ولماذا؟ لِتستجِمَّ الجيوب ؟
إِذن، لنشخص إِلى لبنان
ولكنَّ الثلوج المتراكمة تسدُّ الدروب: دروب السيارات، ودروب القطارات
وبعد تمضية ليلتين في أَحد فنادق دمشق، اقتحمت الثلوج في سيارةٍ مغامرة بِتنا فيها ليلةً أُخرى أَمام أَحد مخافر الحدود وقد فعل بي ذلك المرض فعله البليغ، ما أَزال حتى اليوم، ينتابني منه ما ينتابتي(6)
لقد كانت فنادق دمشق، وسيارات دمشق أَرحب صدراً وأَكرم وفادة وضيافة من مدرسةٍ أَخلصت لها، وما كنت يوماً متوانياً، أَو غيرَ مخلصٍ في أَداءِ ما يجب
 
هذه ونظائرها ممَّا يقع لي، ولغيري ولكنها كانت لي تجربة غنية بالعبر
وارتسمت في خاطري تساؤلات؟
كيف ينقلب الإِنسان الحمل إِلى ذئب؟  كيف تنقلب المحبةُ إِلى عِداء؟  ولا سيّما في من سمَّوا أَنفسهم، أَو حسبهم الناس، رسل المحبة وودعاءَ الرُّوح؟
في صراع المصالح والأَثَرة والاستغلال تختفي كلّ قِيَم الإِنسان وراءَ قِيَم الرّبح والنفع
علاقة الإِنسان بالإِنسان ما زالت علاقة انتفاع  ولمّا تتطور إِلى علاقة بشرية، إِنسانية أَصلًا
تحت قشور الشرائع الخادعة والقوانين الآسرة أَلفُ ظلامةٍ وظلامة، وأَلف ضحية بريئة
ثمَّ ماذا؟
لا نَني نعِظ ونثرثر من منابر العاج ونخادع أَنفسنا بأَننا رسلُ محبةٍ وإِخاءٍ ومساواة  وسلام
ننادي بالويل والثبور، وعظائم الأُمور ونتبجَّح بأَننا قيِّمون على الناس، ومسئولون عن مكارم الأَخلاق؟
ثمٍَّ ماذا أَيضاً؟
لا تمتد لنا يدٌ عاملة فاعلة صادقة إِلى حلّ مشكلة وليس لنا موقف حازم مسئول من ذلك الانسان الضحيّة، أَو من أُولئك الضحايا، وهم يسعون مكافحين لتصحيح علاقة الإِنسان بالإِنسان في إِطار مجتمع أَفضل يمتاز بالمحبة في صفائها والسلام في شموله والإِخاءِ في نزاهته، ونقائه
قناعتي هذه، في نطاق محاكمة عقلية دائبة، رسمت لي سلوكي، كاهناً وإِنساناً
وما دَامت قناعتي هي قناعتي، يظلُّ نضالي هو نضالي كاهناً وإِنساناً
1943





قَائد مُقَاوَمة



أَلمولودُ في مغارة حقيرة باردة، تلعب فيها الريح فراشه مِذودُ البقر، ودِفؤه أَنفاس البهائم طفل من فقراءِ الناس من المستضعَفين في الأَرض
لم يُولد فقيراً في كوخ ليجعل الفقرَ فضيلة الأَكواخ، أَو فضيلة السماءِ في الأَكواخ؟
هو، في فقره ذاك، قائد مقاومة زاجرة للسادةِ الأَعلَين، الرافلين بالخزّ والديباج  مَن ضمانة رخائهم مسلوبة من رخاءِ الناس، ومُتَعُ حياتهم حرمانٌ مصنوع لأَبناءِ السبيل
هو، في فقره ذاك، متمرّد تمرُّد الحياة المستطية على نفسها في صيرورة البقاء، وقد علَّم إِخوته الفقراءَ المساكين أَن يكونوا أَبداً مَرَدَة وأَن يكافحوا الظُلم والظَّلام أَبداً جبابرة
 
بكلماتٍ إِلهية مضيئة، رجمَ بالويل تلك القلَّة الباغيةَ الحاكمة، وهي تتحكَّم برقاب الناس، بما تملِك وتحتكر من أَقوات بما تشترع من شرائع وتُعبِّئ من جنود وتصنع من سلاح
ويلاتٌ إِلهية ساخطة أَلقت الرُّعب الهادر في ذلك المجتمع العبد وظلت موصولة الأَصداءِ في آذانِ المستضعفينَ في الأَرض تُلهمهم وتحرِّك فيهم رغبة التحدِّي، وإِرادة المقاومة
 
مملكته ليست من هذا العالم، عالم الأَرض، يطغى فيها أَربابُها، ويستبدُّ بها أُلأَقوياءُ مالاً وسلاحاً وجُنداً
أَجل
مملكته من عالمٍ آخر، تصنعه الجماهير المقهورة، بالسواعد المُسخَّرة، وتشمخ به سامقاً، في هالة من صفاءِ الروح، وحرارةِ الإِيمان، هذه الأيدي المصفَّدة، يوم تعقد عزائمها، وتتآصر على تحرير نفسها، وتحرير الإِنسان
جباراً كان الناصريّ في مولده، كما كان جباراً على صليبه
كان، في مجال التاريخ، انتفاضة الذين أَلهبت ظهورَهم سياطُ البغي وكان في ضمير الزمن حلم الأَجيال، ويقظة التائهين
عِظةً كانت بطولته الصابرة للمتأَلمين من أَبناءِ الأَرض
وقدوةً كان تمرُّدُه للمكافحين من أَجل
الملكوت
وأَعداءُ الناصريّ، في معنى ولادته، ومغزى فدائه، وهم نصاري ، ما يزالون يزرعون الدروب أَشواكاً، ويبثُّون في أَذهانِ الشعوب خرافاتٍ وأَساطير، وهي تحمِل صليبَها إِلى الجلجلَة، ومن دمائها يغسلون الأَيدي وقد تلوَّثت بحمأَة الكذب والنفاق
طفل بشريّ في مذود
وقائد مقاومة على صليب
والمقاومة في معنى البطولة جبروتُ الحق في معنى خذلان الباطل
أَلا يستحي الذين يحملون اسمه أَلاَّ يكونوا دائماً، في خطِّ كفاحه؟
أَلاَّ يُعلِّموا كما علَّم؟إ
أَلاَّ يُبغضوا كما أَبغض؟
أَلاَّ يُحبّوا كما أَحبَّ؟
لقد ادَّعوا، بلا حياء، أَنَّهم باسمه يذبحون الشعوب وباسمه يدافعون عن الحرية وباسمه يحاربون الكفر وهم كافرون
الذين جرَّدوا المسيحية من مناقب الروح نَكِلُهم إِلى بُسطاءِ المسيحيين ففي مدرستهم يتعلَّمون أَصفى ما أَعطتِ المسيحيةُ من تعاليم
والطليعة المؤمنة، الثائرة، الصابرة تظَلّ دائماً وأَبداً أَمينة للكفاح الذي وُلِدَ في المذود طفلاً، وانعقد على الصليب شارَة نور، وعلى الجلجلة شعاراً وناراً
1945





الزَمَانوالتَّاريخ



ما الزَّمان؟
إِنه هذا الفضاء، يتحرَّك بذراته الكونية اللامعدودة، في محيط الجذب
هو هذه الكواكب المتجاذبة في سلسلة من دوائر في لامتناهي هذا الفضاء
أَليومُ والساعة، والعام الأَمسُ والغد رموز لُغوية، مقاييس، وضعها الإِنسان اللُّغوي
فأَوجد التَّاريخ
عقلٌ لغةٌ آلة خلقت تاريخ الإِنسان
فإِذا تاريخُه أَشكالٌ متباينة لعلاقاتِ النَّاس في مجتمع 
نُقايس بالأَعوام ؟
إِذن لنا تاريخ محدود
نقايس بالانتفاضات، بالانقلابات
بالثورات
إِذن لنا تاريخٌ غير محدود
الثورة نقطة انتقال
مقياس حركة
في أَضأَل شيء، وأَعظم شيء
هي تاريخ حياةٍ، وتاريخ تطور
وهي تطوّرُ حياةٍ وتطوُّرُ تاريخ
أَلإِنسان صنع، ويصنع التاريخ بثوراته
لا بأَعوامه وأَيامه
وساعةُ التاريخ؟  من يملك ردَّ عقاربها إِلى ما يشاءُ من وراء؟
1945





حَصاد فلسَفي ثمِين



في مستهلّ عهدي بالطلب -وأنا طالب دائماً وأَبداً- رأيتُني أوغل في البحث عن الحقيقة، أَو عن المعرفة التي هي حقيقة  فإذا أَمامي غابة كثيفة الأشجار، عميقة الأبعاد، كلما أوغلت فيها ازددت ضلالا  لأن المنظار الذي ظننت أَنه يكتشف أبعادها، ماثلةً، في وضوحٍ أَمام عيني، قد أُعطيتُه من زاوية معيَّنة، وعلى عدسته غشاوة لا تستبين لأول وهلة
ورحت أَبحث   وعمَّ أَبحث؟  عن الحقيقة، حقيقة الإِنسان الذي هو أنا، وأنت، ونحن، في الوجود، وعن ضمير الوجود في الإنسان
وتوهمت رؤيته، بصفاء، في ما درست وأدرس من فلسفات قديمة، ومتوسطة، وحديثة فما تأتَّى لعقلي الباحث الناقد -وأنا ابن النشأة البائسة- أن يكتشف حقيقة بؤس الإِنسان، وأسباب هذا البؤس، بقناعة عقلية بحت
فلم يكن لي بُدّ من تغيير الزاوية التي أقف فيها، وتنظيفِ المنظار
ورحت أنظر من هذه الزاوية بمنظارٍ إنساني نقي، فإذا برحلتي الفكرية الباحثة عبر هذه الغابة الفلسفية الكثيفة قد عادت عليّ بصيدٍ سمين، وحصادٍ ثمين
فكتبت ما تقرأ الآن، تحت هذا العنوان، عام 1946، وقناعتي ما تزال هي إياها
* * *
الفلسفة ثمرة الفكر الباحث عن الحقيقة
وهي كالتاريخ وكلاهما معناه الوعي الذاتي للحياة، حياة الناس العائشين في مجتمع
ووعي الفلسفة لهذه الحياة يجعل مشكلتها الرئيسية محاولاتٍ لمعرفة الحقائق في مُتَّجه سيرها، حقائق التاريخ، تاريخ الناس
دونما اعتبارٍ للأَوهام التي وُصِفت بأَنَّها حقائق في أَذهان أَصحابها
هذه الفلسفة ذات معنى تاريخي فاعل
أَما الأُخرى  فذات تأَمُّل مجرّد مطلق، لا قيمة له، ولا نفع إِلا في كونه رواسم في تاريخ الفلسفة
 
لقد تعثَّرت الفلسفة بالمتناقضات، وظلت منها في حَلْقةٍ مفرّغة وعجزت عن الوصول إِلى الحلول الصحيحة لهذه المتناقضات
ومردُّ ذلك -في رأْيي- إِلى أُسلوب التفكير، أَي إلى الزاوية التي تنظر منها إِلى الحقائق فأُسلوب التفكير الصحيح يقوم على اعتبار كُلّ العناصر التي تؤلِّف المجتمع وحداتِ عُضوية مترابطة، غير ذات استقلال وما ينَشأُ عن هذه العناصر، إِنما ينشأُ من العلاقات القائمة بينها، بوصفها وحداتٍ عضوية ذات تفاعلٍ متداخل
وهذا الأُسلوب من التفكير يجعل كل مشكلة اجتماعية ممكنة الحلّ، بوصفها موضوعاً فلسفياً على صعيد هذا التفكير  وبالتالي، تكون كل مشكلة مستعصية على الفكر، وصعبة الحلّ، إِنما ترجع إِلى أُسلوب التفكير نفسه، لأَنه وضع المشكلة وضعاً خاطئاً، فإِذا هي صعبة لا تُحَل
إِن وضع ما يُسمَّى بالمشكلات الفلسفية، وضعاً خاطئاً على أَساس أُسلوب تفكيريّ خاطئ هو الذي وسم الفلسفة بسِمَةِ الغيب
فإِذا هي أَكوام متراكمة من النظريات، والفرضيات العقلية المجرّدة المطلقة ثم جاءَ من يتفلسف لحلّ هذه المشكلات  فسمُيِّ فيلسوفاً  ولكن، هل استطاع هذا الفيلسوف، وأسلوبه الفلسفي، كما ترى، أَن يُحلَّ مشكلة واحدة من مشاكل المجتمع الإِنساني؟  هذا، إِذا لم نقل إِنه زادها تعقيداً وتعمية وظلَّ فيلسوفاً فاشلاً
الحقيقة كما تبحث عنها الفلسفة القديمة، هي بنت التصوّر المجرّد، والعقل المُطلق
والحقيقة، كما تبحث عنها الفلسفة الحديثة هي بنت التجربة الحسيّة، في مادَّتها الحسية، وإِذا كلّ ما تؤيده هذه التجربة هو حقيقة، وهو أَيضاً محسوسٌ ومعقول
أَلإِنسان يعيش في عالم حقيقي مادِّي ملموس كُلُّ أَفكاره وخواطره تدور في واقع هذا العالم
وهذا العالم، بكل ما فيه، شيءٌ يعني الإِنسان، فمن حقه، بل من واجبه أَن يفكر فيه، لأَنه منه في الصميم
ويتطوّر هذا العالم باستمرار، ويسير في اتجاهات معيّنة، لا سيراً تلقائياً آلياً، بل سيراً متأَثراً بنشاط هذا الإِنسان وأَفكاره وهذا يعني أَن الإِنسان هو المُسلَّط على الطبيعة والمجتمع فيطوِّرهما وفق حاجاته المتطورة
هذه النظرة الفلسفية إِلى العالم تجعل الفلسفة وسيلة من وسائل المعرفة الدافعة دائماً إِلى أَمام، والموجِّهة هذا الدفع في اتجاهات صحيحة
فهي لا تفسّر هذا العالم، ولا تحلِّله، ولا تصفه بأَنه حسَنٌ، أَو بأَنه قبيح، بأنَّه معقول، أَو غير معقول
فالعالم يكون قبيحاً قَدْرَ ما يجهله الإِنسان، وقدر ما ينقصه من وسائل السيطرة عليه
فكلّ قبيح في هذا العالم ليس ثابتاً، ساكناً، كلُّ حسنٍ فيه ليس ثابتاً، ساكناً أَيضاً لا يقبل الزيادة، كما لا يقبل النقصان بل إِن جمال هذا العالم، الذي هو الخير، يزدادُ متى عرف الإِنسان وسائل تزييده، وقبحه، الذي هو الشرّ، ينقصُ متى عرف الإِنسان وسائل تنقيصه فلا كليَّة في الخير، كما لا كليَّة في الشرّ
إِنَّ من يدرك هذا يكون في فلسفته المدركة، وعلى نحوٍ حتمي، إِنساناً جريئاً سياسياً مناضلاً، منصبّاً دائماً في مجرى التطور، وناظراً دائماً من قلب المعركة وفي إِطارها إِلى حركات التطور الاجتماعي، لا من مكانٍ آخر في الأَبراج الضبابيَّة الرفيعة
إِن الحقائق الاجتماعية التي تؤلِّف موضوع هذه الفلسفة، وموضوع تفكير الفيلسوف لا تكون أَبداً مطلقة، ولا تكون أَبداً نسبية فما من حقائق مُطلقة أَبداً، وما من حقائق نسبية أَبداً لأَن كلَّ حقيقة هي مطلقةٌ في إِطار حقيقة نسبية، وكل حقيقة نسبية تحتوي مجموعةً من حقائق مطلقة فالحقيقة تبقى حقيقة إِلى الحدّ الذي تتحول فيه إِلى حقيقة أُخرى أَي إِن الحقيقة نسبية في حدود حقيقة أخرى والفرق بين النسبية والمطلقة غير محدودٍ قطعاً
وكلَّما ازددنا معرفة بنسبية الحقائق ازددنا معرفةً بها مطلقة
هذه الفلسفة المرنة مرونة الفكر غير المحدود: فكر العالم والفيلسوف معاً، تجعل الفكر في منأَى عن الجمود والتحجّر، وتفسح له في المجال لتطوير العلم والمجتمع دائماً إِلى الكمال إِلى الكمال النسي
إِن الحقائق الاجتماعية، من نسبية ومطلقة، المتحركة تحركاً جدلياً تاريخياً في إِطار قوانين موضوعية هي ما تصحّ تسميتها، قوانين وحقائق فلسفية ومعرفة الإِنسان لها تشمخ بهذا الإِنسان، وترسم له فكراً فلسفياً، واتجاهاً فلسفياً، وسلوكاً فلسفياً، فيعي الواقع وعياً فلسفياً، ويكون هذا الوعي قوة فعلٍ ثوري في هذا الواقع
فليس الفكر شيئاً آخر غير العالم، وغير النظام في هذا العالم، وغير الانسان
 
الفلسفة أَداة المعرفة والمعارف حقائق في حدودها النسبية والمطلقة وموضوعها هذا العالم: كيف يتغير؟ كيف تُحَلُّ تناقضاته التي هي جوهر تطوره؟ كيف تُمكن السيطرة عليه؟ كيف يتطور وفق معايش الناس المتطورة هي أَيضاً؟
فالتأَمُّل؟ والأنحلال في « اللاوجود » والسبوح على أَجنحة الفكر خيالاً مجرداً مطلقاً، لا تعني أَبداً إِدراكاً ووعياً لحقائق الحياة
أَعني حياة الناس في عيشهم، وسلوكهم وأَخلاقهم وعواطفهم، وأَساليب كفاحهم، باعتبارهم صانعي تاريخ هذا العالم الذي فيه يولدون ويتناسلون ويرتزقون ويُنتجون
والفلسفة التي هي أَداة المعرفة تبحث في عالم الإِنسان، في كفاحه مبصراً واعياً لحركة التاريخ وقوانين المجتمع، بحيث يصل الإِنسان بهذا الكفاح إِلى أُسلوب سامٍ من العيش والسلوك
بين الإِنسان ومجتمعه تفاعل مستمرّ وتبادُلُ تأَثرٍ وتأثير وعاداته وأَخلاقه وسلوكه، ليست « غرائز » طبيعية لا تتبدل، ولا تتغيَّر إِنما هي من معطيات أَنظمته ومؤسسَّاته الاجتماعية، التي وضعته في حالةٍ معيّنة من حالات عيشه وشروط حياته
وهذه الأَنظمة؟
وهذه المؤسسّات؟
مَن صنعها؟
أَليس الإِنسان؟ أَهي أَنظمة ومؤسسات ثابتة خالدة أَزلية، أَبدية؟
أَليست من صنعه هو؟ ومن وضعه هو؟ وهو نفسه الذي يُحدث فيها تغييراً وتبديلاً؟ ويعكس فيها هذا التبديلُ، وهذا التغييرُ آثاراً جديدة تدفعه إِلى إِحداث تغييرات، وتبديلاتٍ أُخرى جديدة؟
أَجل، إِن لهذه التغييرات قوانين ولكنها ليست في ذهنٍ مجرَّد إِذا صَحَّ القول « بتجريديّة » الذهن 
وليست في القمر، أَو المريخ أَو في ما جاورهما من كواكب، إِنما هي فقط في طبيعة العلاقات الاجتماعية
فالفكر الخارج، أَو المنعزل عن طبيعة هذه العلاقات، إِذا صحّ القول « بانعزالية » الفكر   لا أَثر له في أَعمال الإِنسان، وفي سلوكه، ولا يقدِّم، أَو يؤخِّر شيئاً في تطوير هذه الأَنظمة، وهذه المؤسسات
قد يفهم من هذا أَنَّ الانسان عبدٌ، لا حرّ، ما دامَ أَسيراً لظروف عيشه، وطبيعة أَنظمته ومؤسساته وأَن في الأَمر جبرية وجبرية جامدة
كلا ليس في الأَمر جبرية إِنما هناك حرية تعبر عن نفسها في مدى نطاق خاص نطاق مرحلة معيّنة من التطور حرية فاعلة هادمة بانية حرّية غير مثالية، وغير مطلقة، ولا مسيَّبة حرّية الفَهم: « فهم الضرورة »
فإِذا فهمتُ ما يجب عمله، وما لا يجوز عمله لتبديل الأَوضاع ما هو ممكن، وما هو غيرُ ممكن ما يستحيل عمله الآن في ذات هذه المرحلة، وما هو ممكن عمله في ذات هذه المرحلة أَيضاً وإِذا عرفتُ أَن أُعيِّن هذه المرحلة ومكانها من التاريخ، في مجال تطوُّر هذا التاريخ إِذا فهمت كُلَّ هذا أَلا أَكون حرّاً؟ حرّاً من الجهل لضرورة التطوُّر؟
نحن وأَنتم أَحرار ما دمنا في فهم ووعي لشروط التطور وقوانين التغيير، وظروف العيش
وأَنتم ونحن أَحرار ما دمنا على معرفةٍ بتناقضات هذا المجتمع الذي نعيش فيه بالشيءِ الذي يُولد وينمو وبالشيءِ الذي يندثر ويموت بالقوى الاجتماعية النامية، الصاعدة، والأُخرى المنكفئة الذابلة
أَحرار، ما دمنا نعرف سبل التغيير ووسائل التبديل للأَوضاع السائدة على نحوٍ أَرقى وأَحسن دون أَن نسلك في ذلك سلوك الفوضى
ونحن لا نستطيع تغيير هذا الواقع الذي لا نرضاه، وهذا النظام الذي حَرَمَنا أَيَّ قيمةٍ إِنسانية، استجابةً « لمثل عليا » في أَذهاننا أَو في ذهن هذا أَو ذاك من فلاسفة الغيب ولا انسياقاً مع رغبةٍ لا تعي، وفكر جامد، لا يتحرك بحركة الواقع والتاريخ
فالفلسفة النيِّرة هي ما تضع قوانين التطور بين يديك، لترسم أَنت الخطة السياسية الخاصَّة، خطة النشاط، أَو خطة النضال المنسجم مع مرحلة هذا التطور، والنابع من هذه المرحلة وتكون بهذا حرّاً، لأَنك تعرف حينئذِ كيف تحطِّم قيود العبودية، ولِأَنَّ في حريتكَ ومعرفتك قدراً من التلازم المشترك
هذا النشاط وحدَه هو الحرية، وهذه الحرية هي درجة من درجات هذا النشاط





للقِوى التي لا تُغلَب



بركةٌ وخير
هي الأَيدي المتَّسِخة بالتراب، ذهباً تمسح به وجه الأَرض
أَيدٍ تصنع الحياة خصبة نامية يتكامل بها الفكر والحضارة
 
في البدءِ كان العمل
وكان العامل يداً ودماغاً
وكانت الكلمة عملاً مِخصاباً، والفكر آلة زرعٍ وجَنْي
عيدٌ
هو الحبّ الذي يعرف كيف يحقد
وعيدٌ
هو الحقد الذي يعرف كيف يُحبّ
فما استوت للحبِّ قدسية في غير هالةٍ من الحقد المقدَّس
 
أَلا سقياً لهذه الملايين الحاقدة في حبّ، الصابرة في شجاعة
العاملة في استبسال
تُشيع الإِعمار، وتستأْصل الاستعمار
سقياً لها ربيعاً متجدداً في المجتمع والكون
تحيَّةً
للقِوى التي لا تُغلَب
لأَنها الحياة التي لا تغلب
أَيار 1951





مؤمنٌ وَكافِرٌ معاً



جفوتُ القلم إِلى حين
ومرَّ يسيرُ زمن خِلته أَطول من يوم الجوع، وليل الأَلم
ونشب في داخلي صراعٌ عنيف، على نحو ما هو ناشب في وطني من صراع  بين الجمود والتطور بين أَبناءِ الموت، وأَبناءِ الحياة
وكانت نهاية الصراع أَن تغلَّبَت فيَّ نوابض الخير تتحدّى الهزيمة بإِصرار وعزم
وإِذا القلم بين أَناملي يخط ُّ نهاية الجفاء
هذا القلم
ما جفوته خوفاً علي من أَعدائه  وما جفاني، لأَنَّه استشعر مني انحرافاً عن سديد المنهح، وميلاً عن حق الإِنسان المظلوم المقهور إِلى باطل الإِنسان القاهر الظالم
فما عوَّدته غير الصرير بالحق وتبيان الحق متشدِّداً، ولو انقلب إِلى نصل مرهف يُغمده في صدري قاطع طريق
إِنما كان الجفاءُ إِلى حين، تَقِيَّة، لا خوفاً
وهَأَنذا أَعود إِلى هذا الشُّوَيء عودة الجندي إِلى سلاحه
أَعود إِلى مَكاني من المعركة
لأَني مقتنع بما أَخط من حرف، وأَستشرف من غد، وأَستنير من فكر، في عتمات هذا النظام المنهار على نفسه كمهلهَل الثوب
أَعود  لأَني مقتنِع بمسئولية القلم، في مقارعة المتسبِّبين بتفسّخ هذا المجتمع، سياسةً وأَخلاقاً وفكراً  وهزِّ أَدمغتهم هزًّا عنيفاً متواصلاً ينتبهون بعده على أَشلاءٍ حية زرعوها، وصنوف أَشاعوها، من بؤسٍ وشقاء 
هؤلاء
قصدوا إِسكاتي، فازددت صراخا
هؤلاء
حاولوا إِرهابي، فازددت شجاعة
ئعمَّدوا عزلي، وتَحييدي، فاضطرمت إِيماناً بالقضية الإِنسانية العادلة وبتُّ أَكثرَ التصاقاً واندماجاً بالملايين الشريفة الطيِّبة، لأَني أَنا واحدٌ من هذه الملايين
هذه التي لا تُهادن مستعمراً، ولا تظاهر مستثمراً وهي، وحدَها، تحدِّد للأَقلام الحرَّة واجباتها، وتختار لها موضوعاتها تعيَّن لها ما تكتب وما لا تكتب، ولأَصحابها ما يقرءُون، وما لا يقرءُون
قالوا: أَنت « شيوعي » ؟
قلت: على رِسْلكم يا قوم ما بالكم تنهشون بأَلسنتكم رؤيتي، فتُنشِبونها نضناضة هاذرة، لا يلويها منطق، ولا يضبطها برهان؟
أَفَيضيرُ الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود أَن تتوارد على وعيها وإِدراكها عقول كثيرين، وكثيرين، من غير أَخذ وإِن كان يُظنّ أَنه أَخذ 
هل الفكر، والعدل، والحق، والأَخلاق، والضميرِ، حُكْرَة لكم كمعايش الناس؟
تخرَّصوا إِذن، ما شئتم، فأَنتم مني في مُهمَلات ما أُهمِل
وأَنا كما أَنا  أَعي ما أَعي
أَعي الوطن وعياً إِنسانياً، وأَعي الإِنسانية وعياً وطنياً أَليس ما هو وطني هو أَيضاً إِنساني؟  وأَنا، لذلك، أُكافح أَعداءَ وطني وأَعداءَ الإِنسان في أَي بقعةٍ من بقاعِ الأَرض
قالوا: أَنت « كافر » 
قُلت: عرفتم من إِيماني وجه السَّلب، ولم تعرفوا وجه الإِيجاب
أَنا مؤمن وكافر معاً أَلا يُرضيكم هذا؟
مؤمن بمن خلق الإِنسان والوجود في أَحسن تقويم وكافر بمن شوَّهوا الإِنسان والوجود أَشنع تشويه
كافر بكم  بقِيَمِكم
بمقاييسكم وأَوزانكم
مقاييس أَفكاركم وفلسفتكم
وأَوزان مالكم وأَرباحكم
كافر أَشدَّ الكفر باستعلائكم الوقح على الإِنسان بالمظالم الاجتماعية الواثبة إِلى أَغراضها الدنيئة على ظهور الملايين الكادحة المقهورة الجائعة
كافر بالشرّ لأَني مؤمن بالخير 
قالوا: أَنت « مشاغب »
قلت: صدق بهؤلاءِ المثل: « رمتني بدائها وانسلَّت »
فهل أَنا من تجار السياسة؟
من باعة دكاكين الطائفية؟
من عبيد السفارات؟
من غلمان القصور؟
من له مُسكة من عقل، وبقية من ضمير يخجل من نفسه، فلا يُطلق الكلام على عواهنه ويُسمِّي المنافحَ عن الحق، والحياة والسلام، والغبطة، والبُحبوحة بغير ما له من أَسماء دالَّة هادفة  إِلا إِذا كان له في هذا الكَلام « المعزوف » نفعٌ حقير
إِنَّ هؤلاءِ -وإِياهم أَعني- يفرضون على العقل تفكيراً معيّناً يبرِّر تسلُّطهم الأَرعن، وجشع استثمارهم
لا تردعهم روادع، ولا تنهاهم نواهٍ عن تطويق الفكر الذي لا يدور في فلكهم، ولا يتقوقع في فكرهم، ولا يأْسن في منافعهم الطافية أَبداً على الدماء
فالأَقلام التي تقلِّم أَظفارهم، وتكشف ما استتر من مراميهم الشريرة، أَقلام شريرة، لا بدَّ أَن تطوَّق، وأَن تُخرَس، وأَن تُحطَّم، لتسلم لهم حرية النَّهب والنهش
أَلم يشهد التاريخ القريب، والبعيد، مثل هذا الصراع بين الأَقلام والنيوب؟
فكان للنيوب أَن انسحقت
وكان للأَقلام أَن انتصرت
تمزِّق أَطواقها، تدوس مُطوِّقيها تهدم وتبني تخلق وتبدع؟
يطاردون الأَقلام الطاهرة
ويباركون الأَقلام، والأَفلام العاهرة يدَّعون، كذباً ورياءً، مكافحة الشذوذ من حيث يعملون على اتخاذه منهح سلوك، وديدن علاقات
يتبجّحون بالسلام  من حيث تأْخذهم هسْتَرةُ الحرب  تدميراً ومحقاً 
يثرثِرون بحب الإِنسان، وحب الوطن، من حيث يُزحْفِطون إِلى أَعتاب أَعداءِ الإِنسان وأَعداءِ الوطن
لقد تعاظم الخطب بهؤلاء
تضيق صدورهم بأَحرار القلم
من حيث يمجدون مرتزقة القلم يخافون الثقافة الوطنية النيِّرة، لأَنَّ الجريمة دائماً تلبس الليل  فيتحدَّون كتب هذه الثقافة، تارة بالمصادرة، وطوراً بالإِتلاف
يُشجَّعون الأَكاذيب المبثوثة هنا وهناك، والأَضاليل، فكريةً وفلسفية، في هذا الكتاب أَو ذاك، وهذه الورقة أَو تلك؟  ولا يبالون 
لقد طما الشرُّ على الإِنسان
بهؤلاء وأُولئك
 
لقد اعتقلوا كتبي، وظنوا أَنهم اعتقلوا فكري ومهما تطاولت أَيديهم الزنخة فهي أَعجز عن أَن تمسَّ فكر الإِنسانية المتأَلمة أَو أَن تصل إِلى مواطن الشرف من نفسها، والشمم من أَنفها، والطهر من أَخلاقها، والعِفَّة من يديها
وستعود كتبي من المعتقل، لأَني ما أَزال واثقاً بوطنية القضاءِ ونزاهة القضاة في بلادي  بعد نومة طويلة أَو قصيرة في الأَقبية السوداء بين حشد حاشد من ملفات جرائمهم النكراء
وسأَفضُّ أَختامها الحمراء، وأَنفض ما علِقَ بها من غبار « السرايات » وأُعيدها إِلى مكانها المحترم من مكتبتي، كتاباً كتاباً، بعد أَن اغتصبوها من مكانها المحترم كتاباً كتاباً
فلقد ارتضيت لنفسي الكتاب النيِّر بدل الدرهم الحقير  واشتريته بما وفَّرت من ثمن الغذاءِ والكساء
ولينتحر عُبَّادُ الدولار إِنَّ معبودهم تحت قدمي
وليخسأْ أَعداءُ الثقافة، وأَولياءُ الجهل وساسة التجهيل فما كانوا يوماً من أَبناءِ النور
يتعالَون علينا بهزِّ الصولجان فنعتزّ عليهم بهزِّ الأَقلام الهادمة للعروش والتسلُّط، لكلِّ ما ليس بوطني ولا إِنساني
والسنديانات الضاربة في أَعماق التراب، تراب هذا الوطن، ما همَّها يوماً أَن تتناوَحَ عليها الأَهواء فلكم انتحرت فيها من عواصف
والتاريخ قوافل تتواصل وتتلاحق هذه تعطي، وتلك تأْخذ، والمستقبل تدفُّق أَخذٍ وعطاء من ماضٍ إِلى حاضر كما تتدفق أَمواج النور في حواشي الظلام
في مواكب النور مكاني الذي اخترت ودليلي تعاليم دينٍ نقية، وكتاب نيِّر، وفلسفة رشيدة
وفي أُذني موسيقى الحرية تبثُّها حناجر المستضعفين في الأَرض وفي خاطري وعيُ الأَجيال الجديدة الناهدة إِلى واقعٍ أَفضل
1953





أمام القَاضي: جُبْران



 يحضرني -وأَنا ماثل أَمام القضاء- نصٌّ تاريخي مأثور، قاله « سقراط » منذ عشرين قرناً ونصف، يوم انعقد مجلس من خمسمئة قاضٍ لمحاكمته على كفره  ومقاضاته على حرية رأْيه
قال للقضاة: « ما من إِنسانٍ على هذه الأَرض، له الحق أَن يُملي على الآخر ما يجب أَن يؤمن به، أَو يحرمه حريةَ التفكير كما يهوى »(7)
وأَضاف: « ما دام الإِنسان على وِفاق مع ضميره، يستطيع أَن يستغني عن رضا الحكام ورضا أَصدقائه أَن يستغني عن المال عن البيت والعائلة دونما اعتبارٍ للنتائح »
وعبارةٌ أُخرى تحضرني، قالَها « رِسْل »:
إِذا ما سُئلتُ: هل الشعبُ جدير بأَن يكون حُرّاً؟  أَجبتُ سائلاً: « وهل على الأَرض إِنسانٌ جديرٌ بأَن يكونَ مستبدّاً »؟
وعبارةُ « جفرسون »: « إِنَّ الله وهب لنا الحياة، ووهب لنا معها الحرية بذات اللحظة وذات السبب »  فجاءَ الجمعُ بين الحياة والحرية دليلاً على أَنهما توأَمان طبيعيان لا يفترقان لا وجودَ لأَحدهما بغير الآخر
 
هي المرَّة الأُولى التي أَمثل فيها أَمام القضاء بدعوى لي أَو علي
وإِنَّه لمن دواعي فخري واعتزازي أَن أَمثل أَمام القضاءِ مرَّةً أُولى، أَو عدّة مرات، في دعوى، أَو دعاوى لا تحمِل من صفة الجُرم غير علاقتها بحرية الفكر فلقد ضاقت صدور المسئولين بحرية المواطنين، وبهذه البقية الهزيلة من نصوص الحرية في الدستور والقوانين
وللتاريخ دروسٌ وعبر
فالحريَّة التي يضطهدها المسئوُلون في لبنان، كانت في رحلتها الطويلة الشاقَّة عَبر التاريخ تتحدَّى الإِرهاب وترسم على جوانب الدرب، معالمَ من دماءٍ وأَشلاء، وآثار عواصفَ وأَعاصير تنمو بالمقاومة، وتترعرع تحت أَلاهيب السياط، وتزدهر بهجير الطغيان  « وليس كالطغيان شيءٌ يسوق الناس سوقاً عنيفاً إِلى الحرية » كما يقول: »فولتير »
وما تزال للحرية مأْساتها  ما يزال لها مضطهِدون، مُكابرون، لا يحسَبون حساباً عسيراً لكل هذا الَّذي حدث ويحدث، في سبيلها من ملاحم الكفاح وقد نبتَ لها بعد كلّ كفاح، أَظفارٌ وأَنياب
 
إِذا قامَ بيننا من يمارس حقَّه المقدس مضموناً في الدستور، وشِرعةِ حقوق الإِنسان، وهي نفسها نتاجُ الحرية المكافحة على مرّ العصور
إِذا قام بيننا من يرى رأْياً، أَو يقرأُ وينشرُ كتاباً، أَو يطالع صحيفة، وينتقد سياسة لا تتلاءَم – في رأْيه – ومصلحة الشعب
إِذا قام بيننا من يتَّجه في تفكيره، وأَدبه، وسياسته، وثقافته غيرَ مُتَّجه السراي وذوي السلطان
قالوا عنه وعليه أَشياءَ وأَشياءَ قالوا: هو « شيوعي « ، وقالوا: « مشاغب « ، « مخلٌّ بالأَمن العام »  إِلى آخر ما في أَضاميمهم من مصطلحاتٍ مُفرَّغة جاهزة
ولكنَّ منطق الحقائق يقول غيرَ ذلك يقول: إِنَّ المشاغبين، وذوي الفتنة، والمُخلِّين بأَمن الشعب، هم الذين يكافحون حرياته بما يفتعلون من ذرائع، ويخترعون من قوانين ضاغطةٍ آسرة، تحجز عليه حرية العقل، والعمل، والعيش، والحياة
ليس الذين يرسمون للشعب طريق الخلاص بأَقلامهم وأَفكارهم هم مصدر الفتنة والشغَب
وليس الخطر الذي يهدِّدُ الدولة والمجتمع ناجماً عن فكرٍ حرّ، ومواطنٍ حرّ  إِنما الخطر كلّ الخطر في فكرٍ عبد، ومواطن عبد مقيَّدٍ مظلومٍ مضطهَد وفي مواطنين مستعبَدِين مضطهدين مظلومين
إِن الذين يمنعون على الشعب حريّة المطالبة بحقِّه في الحياة الحرَّة الامِنة الرغيدة هم وحدهم المسئولون عن الفتنة والشغَب والفوضى
ولكن، ما حيلتنا بغلاظ القلوب والعقول الذين ينسَون، أَو يتناسون دروس التاريخ، ويجهلون، أَو يتجاهلون منطِق الحقائق ؟
 
هناك في منزلي الهادئ المطمئن حيث أَنصرف إِلى القراءَة والدرس، والتفكير، دخل رجال الأَمن العام مقتحمين مُفتِّشين منقَّبين عبثوا بكتبي كتاباً كتاباً، وتحرَّوا أَوراقي، ورقةً ورقة وامتدَّت أَيديهم إِلى الجدران، وما وراءَها، والأَرض وما تحتها إِلى خزانة ثيابي إِلى سريري وما تحت سريري إِلى سلَّة المُهملات، ومِرْكَن النُفايات إِلى المطبخ، والمرحاض، والحديقة
دخلوا كجواسيس عبد الحميد، حتى كأَنَّ للأَتراك بيننا عهداً، ولتاريخهم الأَسود امتداداً، أَيام كان الأُدباءُ يقرءُون الكتاب بعد نصف الليل، ويدفِنونه قبل بزوغ الفجر
دخلوا منزلي، فماذا وجدوا؟
يقيناً أَنهم لم يجدوا دهاليز معبَّأَة بالسلاح المهرَّب ولا مستودعاتِ مكتظَّة بالحشيش والأَفيون  وما عثروا عَلى أَهراءٍ تكدَّس فيها القمح، وموادُّ الغذاءِ، وما احتُكِرَ من أَقوات الناس؟
يقيناً، لم يقبضوا على عصابة هاربة من وجه القضاء اتخذت لها من بيتي حصناً، وليس أَمامه سيارة فخمة يخفق عليها علم ؟
لقد كان الأَجدر بهم، إِذا كانوا حقاً رجال أَمنٍ عامّ، أَمن الشعب، أَن يتوجّهوا إِلى تلك المكامن المعلومة إِلى حيث يكمن من تنزّ أَيديهم بالجريمة، وتنغَر قلوبهم بالشرّ والفساد
ماذا وجدوا في بيتي المتواضع غير مكتبة متواضعة عامرة بالكتب، وبثمرات الفكر الإِنساني
وقد زوَّدهم رئيسهم بأَمر اعتقالي، في حال العثور على وثائق مُهِمّة؟
ولمَّا لم يجدوا، بعد التنقيب العميق الدقيق، هذه الوثائقَ المزعومة، اعتقلوا بعض الكتب التي تُباع والتي كانت تُباع في المكتبات العامّة، كما اعتقلوا بعض الأَوراق المخطوطة، والمجلات والصحف
وانصرفوا دون استجوابي
فإِذا كان ما ضبطوه عندي شيئاً ممنوعاً، فلماذا لم أُسْتَجوَب بشأْنه، وأُحَل فوراً إِلى المحاكمة؟  وهم ما دخلوا بيتي ضيوفاً يتناولون القهوة والشاي، بل جاءُوا للعثور على أَشياءٍ ممنوعة، بغية اعتقالي وسوقي إِلى دائرتهم
يقيناً أَن ذلك لم يكن عفةً فيهم، ولا رحمة، أَو شفقة وهم المعروفون بغلاظة القلب في تجسُّسهم على حرية المواطنين وآرائهم
إِن المسلَّطين – وإِياهم أَعني – لم يبقَ لهم من جريمة يفتعلونها عن تعمُّد وقصد، غير « الشيوعية » يأْخذون بها كلَّ وطنيٍّ لا يرى رأْيهم في السياسة، والاقتصاد، والأَدب، والثقافة
ومقاصدهم من ذلك معروفة لغير ذي رَمَد هي محاولة، ولكنها فاشلة، لتفتيت النَّواة الصُّلبة في الحركة الوطنية المقاوِمة للاحتلال والحرب
 
في أَثناءِ الحرب العالمية الثانية -وأَنا ممن وُلدوا في مستهل الحرب العالمية الأُولى- يوم كانت النازية عدوَّة الحلفاء، ولبنان تحت سيطرة الانتداب الفرنسي كنت « نازياً » مزعوماً في عرف سلطات الانتداب وصنائعه؟
أَتعرِف لماذا؟ لأَني كنت أُطالب مع سكان هذه المدينة البائسة بتزييد كميات الإِعاشة، وتحسين نوعها، وقد كانت تُوزَّع على الشعب بالدرهم، ويغترفها مستغلُّوه بالقناطير  فلم يجدوا لي عهد ذاك، من جريمة سوى « النازية » يخنقون بها صوتي دون مطالب الشعب
ولكن صوتي لم يختنق  ولن يختنِق  ويوم اعتدى الاستعمار الفرنسي على حكومة الاستقلال الأُولى، وانتفض الشعب اللبناني تلك الانتفاضة الوطنية الصامدة، كنت في سورية وكان لي مع ذلك الشعب البطل مواقف تأْييد، واستنكار، واحتجاج على ذلك الاعتداءِ الوقح  فأُبعدت عن منبر التدريس بحجة أَني من خصوم الانتداب فيا للجريمة؟  وكان رجال الأَمن العام أَنفسهم في خدمة ذلك الانتداب فصادروني على الحدود وأَوسعوني تفتيشاً، وتعريةً حتى من ثيابي  وهؤلاءِ أَنفسهم – ولا أَعلم في خدمة من يعملون اليوم – يقتحمون منزلي هذا الاقتحام الأَثيم بحجة أَني « شيوعي »؟  فيا للسخافة ؟ لقد نقلني هؤلاءِ الناس، بمثل هذه السهولة، من أَقصى اليمين إِلى أَقصى اليسار؟ فيا للسحر؟  حقّاً إِنَّهم لَسَحَرة، وصانعو مُعجِزات؟
مَن يدَّعِ الوطنية ادّعاءً، ويتَّخذها أَداةَ تجارةٍ وكسب، فليخجَلْ من نفسه، على الأَقل ، ويخفض بصره حياءً أَمام من يقدسون الوطنية عقيدةً، وجهاداً
« ولنحن أَعرف من هم  ولمن هُمُ     ولمَن تُمثَّل هذه الأَدوارُ »؟
 
قال وليد المغارة: « طوبى لصانعي السلام، فإِنَّهم أَبناءَ اللّه يُدعَون »
وقال يتيم قريش: « تَعاوَنُوا على البرِّ والتقوى، ولا تَعاوَنُوا على الإِثم والعُدوان »
وقال رسول الأُمم: « إِذا كُنتُ كلَّ شيءٍ، ولم تكن فيَّ المحبة فلستُ إِذن شيئاً »
وإِليكم، أَيُّها القضاة، أَروعَ ما صرخ
به يتيم قريش: « لَزوال الدنيا أَهونُ عند اللّه من دم يُسفك بغير حق »
وافتحوا آذانكم على الويلات التي صبَّها بطلُ الفداءِ مُهدودِرة ساخطة، على العشَّارين، والكتبة، والفرِّيسيين الذين يأْكلون الأَرامل، ويُعشِّرون الأَموال ويتخلَّون عن أَثقل ما في الناموس، وهو العدل والرحمة
وكذلك، على الذين يعفُّون عن البعوضة، ويبلعون الجمل
فهل المسيح ومحمد « شيوعيّان » في ما علَّما وأَنذرا؟
وإِذا حملت أَنا على فرِّيسيِّي هذا العالَم وعشَّاريه، وسفَّهت الكَذَبة في أَعمالهم، وأَقوالهم، وسياستهم، فهل أَكون أَتيتُ عملاً إِدّاً؟  هل أَكون غيرَ ما شاءَ معلِّمي أَن أَكون؟
يقيناً أَن المسئولين في لبنان لا يتورَّعون عن سوق المسيح ومحمد إِلى المحاكمة بتهمة « الشيوعية »؟  إِذا جاءَا ثانية إِلى العالَم، لأَنَّ عقلية القيصر، وقايافا، وبيلاطس ما تزال لها أَوكارٌ وأَعشاش في الجهاز الحاكم
ولكِنَّنا لا نُعدَم – بحمد اللّه – من ينتبه فيهم الوجدان الديني والوطني، فيتبرّءُون مِن الجريمة
 
أَلكتاب الذي اشتريته غذاءً للفكر، واقتطعت دراهمه المعدودات من حاجات الجسد غذاءً وكساءً، لا أَسمح لأَحد مهما علا كعبه، وسما شأْنه، أَن يعبث به عبثاً أَثيماً، لأَنه جزءٌ من ذاتي الفكرية وأَقطع كلَّ يدٍ تنتهك حرمته لأَنها حُرمةُ الفكر النيِّر
طالبت بإِعادة الكتب إِلي، فلم أَلقَ جواباً  بل لقيت صمَماً مقصوداً  أَخيراً أَقمت الدعوى على رجال الأَمن العامّ، فما كان من النيابة العامَّة إِلاَّ أَن دفنت دعواي في مقبرة الدعاوى، وادَّعَت علَيَّ بموجب القرار 115 لر، وهو القرار الباقي في القوانين اللبنانية إِرثاً انتدابياً بغيضاً وإِني لأُكبر أَيَّ قاضٍ في لبنان، وأَربأُ بالقضاءِ اللبناني العادل أَن يحكم به على مواطن
لقد ادَّعت عليَّ بما ادَّعت، بناءً على إِفادةٍ من مديرية الأَمن العام محشوَّةٍ بما تحسب، وما لا تحسَب، من أَكاذيب وأَضاليل فجاءَت هذه الدعوى في ظروفها ودوافعها، وواقعها دعوى انتقام وتشفٍّ ليس غير
  
إِنَّ الشعب اللبناني البائس الذي تحكم باسمه الآن، مِن على منصّة القضاءِ لم يبقَ له من ضمانةٍ لحرية البوح بما يفكر، ولما يعرِض من مطالب حيوية مُلِحَّة، هي منه بمنزلة الروح من جسده، والنِقْي من عظامه، غير القضاءِ العادل، وغير قضاةٍ ذوي وجدانٍ إِنسانٍّي حيّ، وعقل قضائيٍّ خلاَّق
إِنَّه سائر، بسرعة، إِلى كارثةٍ مدمّرة تضعه بين أَشداق الموت منكوب برزقهِ، وصناعته، ونتاج أَرضه، وهو يكابد بطالةً مشرِّدة وهِجرة نازفة، وفقراً نامياً وغلاءً مجنوناً وتفسُّخاً أَخلاقياً، ومرضاً وليس لغير عدوّه أَن يدير له ظهره، ويأْتمر بقضاياه، ويكافح، أَو يُحاكم أَصدقاءه المجاهدين الشرفاء
والقضية الكبرى التي تطرح نفسها كُلاًّ في كلّ، هي الحكم الوطني الصحيح، والسيادة الوطنية التامة المستقلة عن أَيِّ إِشرافٍ أَجنبيّ وإِرادةٍ أَجنبية، وتدخُّل استعماري
وَهذه القضية الكبرى لا يتأَتى للشعب إِدراكُها شكلًا ومضموناً، مع ما يفرض هذا المضمون من أَبعادٍ اقتصادية واجتماعية، في محيط الاحتلال والحرب  بل في محيط السلام والأَمن الدُوَلِيَّين
فبماذا نطالب نحن لنُساق إِلى المحاكمة بأَلفِ تهمة وتُهمة؟
إِننا نطالب بالحياة لشبابنا، والبسمة المشرقة لأَطفالنا نرتجف هلعاً، وينخلع قلبنا خوفاً، من القنابل تنقضُّ كالرجوم على البيوت والحقول والمستشفيات
كيف لا نحبّ السلام وأَنصاره، ونكره الحربَ وأَنصارها، وفي كل مدينة من مدن لبنان المتربِّعة في هذه السهول الخضراء والمتكئة إِلى هذا الجبل الأَشمّ، وفي كل قريةٍ من قراه العالقة في السفوح والهضاب، آثارٌ عميقة لحربين عالميتين  باقيةٌ في الصخور، شاخصةٌ في النفوس، شخوصَ الهول والمذلَّة
أَإذا ارتفعت في لبنان أَصوات نبيلة تصرخ في وجه الاحتلال والحرب لإِرغام الدول الكبرى، والحكومات، على حلّ نزاعاتها الدولية بالمفاوضات، لا بالقنابل، على قاعدة عادلة من سيادة الشعوب واستقلالها  تكون هذه الأَصوات الصارخة أَصواتاً نكراءَ مخلة بأَمن المواطنين؟ وهل في محاكمة هؤلاءِ الأَنصار -أَنصار السلام- إِنقاذٌ لهذا الأَمن  ومحافظةٌ على سلامة المواطنين من حربٍ يكونون فيها طعاماً سائغاً للنَّار ؟
أَإِلى هذا الحدّ من المغالطات، والسفسطات تتدحرج وتنهار القيم والأَوزان والمقاييس في أَدمغة المسئولين في لبنان؟
 
وبعد قُل لي، ورَبِّ العدل، ماذا عليَّ إذن أَن أَكون كيلا أَكون « شيوعياً » مزعوماً؟  في عرف المسئولين وأَيضاً، في عرف رجال الدين؟
أَأَكون « وطنياً » من طراز ما نعرف من « وطنيين » يلون الأَحكامَ فينا، ويسيرون في سياستهم -داخلاً، وخارجاً- سير الخضوع، والخنوع أَمام تسلُّط الشركات، ونفوذ الرساميل العالمية الكبرى؟
أَلا أَكون وطنياً  ووطنياً رصيناً؟  عاقلاً؟  حتى أُلوِّث يدي بالدولار ثمناً للخيانة؟  وأُدنِّس فمي تسبيحاً بحمد الأَجنبي الطامع، وتمجيداً « لبطولات » التقتيل، والتدمير، والتجويع، والإِفقار نهباً وسلباً  متخذاً من صناعة القلم، ومنبر الوعظ، صناعة تضليل، لا صناعة هَدْيٍ وإِرشاد؟
أَأَكون ذيلاً مجرَّراً للزعامة الباغية، والإِقطاعية التافهة، وبوقاً ببغاوياً لأَفكار هذه الكمية المهملة في منطق الحياة والتاريخ؟ كيلا أَكون « شيوعياً »؟ 
أأَكون نصيراً لحرب، وعدواً لسلم  أَقف في الأَبراج العاجية، وأَتفرج من بعيد من نوافذ القصور، وسطوح الأَديار، على المجزرة الرهيبة، وهي تُحاك وتهيَّأُ لإِحراق البشرية  ويَدي التي أَرفعها، كل يوم، مراتٍ ب »السلامُ لجميعكم » لا تكون بعضاً من الأَيدي القابضة على مضخات الإِنقاذ لإِخماد الحريق؟
أَنا، أَولاً مواطن، وثانياً رجل دين ورسالتي التي أَعيها، وطنياً وإِنسانياً أَمشي بها في الأَرض مشي الرسول، دونما إِلقاء بال إِلى أَيّ اعتبارٍ سياسي، ينحاز انحياز المنفعة إِلى هذا المتسلِّطِ أَو ذاك
وإِذا كنت غير ذلك فلا أَكون رجل دين، وخادمَ معبد، إِلا بمقدار ما يحمل نسيج هذا اللباس الأَسود، أَو الأَبيض، أَو الأَحمر، من معنى الدين ومعنى الكهنوت 
إِذا كان هذا الذي أَنا جريمة فحبذا الجريمة وإِذا كان هذا يستوجب دينونة القضاءِ في لبنان، فمرحباً بدينونة القضاء
إِن حبَّ الوطن، والإِخلاص الحيّ لقضايا المواطن يخلقان في قلوب المناضلين الرّسل، جرأَة لا تلين، وتضحيةً لا تهِي، تغدو الحياة دونهما – مهما كانت – تفاهةَ عبيد 
« ليس عاراً مبيتُنا في سجونٍ
إِنما العارُ أَن نعيشَ عبيدا »(8)





أمامَ القَضَاء  مَرّةً ثالِثَة



أَمام هذه المنصَّة كان لي بالأَمس وقفةٌ أُولى وكان لي أَيضاً براءَة ساحة(9)
وبين الوقفتين مفارقة طريفة بالأَمس كنت وحدي ذلك « المجرم » ؟ واليوم كُثُرٌ نحن، وللّه الحمد 
مِنَّا الشيخ ومِنَّا المهندس ومِنَّا الطبيب ومِنَّا المحامي ومِنَّا الرياضي(10) والتهمةُ ما تزال هي التُهمة، و »المعزوفة » السمجة ما تزال واحدة والعوَّادُ واحد
مخرِّبون  معكِّرو صفو الأَمن  أَنصار سلام  « شيوعيون »؟  يا للكارثة 
ينشطون في جمع تواقيع على عرائض تدعو كبار هذا العالم إِلى التفاوض، لإِقامة سلامٍ دائم على العدل، تكون فيه الشعوب هي المنتصرة انتصار طمأْنينةٍ، وبُحبوحةِ عيش
ومن العجبِ العُجاب أَن يكون هذا النشاط المبرور تخريباً، وإِخلالًا بالأَمن، في منطق الحاكمين
ولكن، لا عجب  عندما يكون المنطق السليم معطَّلاً بالتسلُّط الأَرعن الضارب في أَعماق الجيوب، والبنوك، ومصانع السلاح
لقد وعت الشعوب مصيرَها الدامي في مَعمعانِ حربَين عالميتين كانت فيهما وقوداً للنَّار وأَدركت إدراك البصيرة أَن الأَيدي التي تتمرّد على حمل السلاح هي الأَيدي التي لا تنغمس في الدماءِ، ولا ينقاد أَصحابها إِلى المذبحة كالأَغنام، استجابةً لشهوات المالكين رقابَ العباد، بما يملكون من سلاح، وما تنغر به قلوبهم من جشع إِلى المرابح، مهما كان في مرابحهم من مذابح 
هذه الأَيدي التي يأْبى أَصحابها شهود المجازر، وإِبادة الإِنسان، تتحرّك أَناملها الشريفة بتوقيع العرائض شجباً للحرب، وإِلغاءً لها في مجتمع الناس
ونحن
أَجل، نحنُ من يمشون بهذه العرائض في الناس، وفي ضمائرنا السليمة شجاعة الحق في إِزهاق الباطل
 
في يدي الآن عريضةٌ موقَّعة من تلك العرائض وأَوَدّ لو أَستطيع أَن يكون لي جناحا طائر أَصل بهما إِلى تلك الهيئة الدوليّة(11) لأَصفع بهذه العرائض بعض الوجوه المتصامَّة عن سماع نداءَات الشعوب، والمتعامية عن الجماهير المضطرمة شوقاً إِلى السلام، علَّها تسمع وعلَّها ترى
ولا تعجب أَيها القاضي إِذا ارتفع بحضرتك صوتي، فلك بالمأْمون أُسوة، وأَنت جالس في منصة القضاء جلس المأمون للمظالم يوماً، وبين يديه امرأَة تشكو إِليه ظالمها وكلامها يعلو كلامَ الخصم، فصاح بها أَحدهم أَنِ اخفضي صوتك فنهره المأمون: دَعْها، لقد أَنطقها الحق وأَخرسه الباطل
أَقول هذا، بإِيمان راسخ، وشجاعةٍ شُجاعة ولنا في ما نعمل مَثَلٌ مِمَّن سلف منَ الأَيمَّة والمرسلين نتشبَّه بهم تشبّه الكرام بالكرام، جرأَةً في قول الحق، واستنكاراً لمظالم الإِنسان
وما يزال التاريخ ينوِّه، إِعظاماً، بالإِمام الأُوزاعي، يوم انتفض ساخطاً على القَتْل في مجزرة « المنيطرة »(12) وعلى تلك الإِبادة الجماعية النكراء
والناسُ هُمُ الناس  والإِنسانية لا تنحصر في حدود وطن إِنَّها كالفضاءِ أَبعاداً وكالملائكة رفيفَ أَجنحة
وهذه الأُوزاعيَّةُ اللبنانية نريدها رنيناً في الضمائر، ورجوماً مهدودرة على عبَّاسيّي هذا العصر، في أَي زاوية من زوايا الدنيا المنكوبة بمن، إِذا عددتهم، لا يتجاوزون عداً أَصابع القدَمَين
أيريدوننا جبناءَ، قلوبنا خشب، وآذاننا رصاص، نتفرَّج على ما يُحاك من رهيب الأَفاعيل
أَيُريدوننا مِثلَهم آدميين أَجساداً تتمرَّغ في الشهوات، لا مُثلاً إِنسانيةً تتنزَّه عن مباذل الجسد لتتوزَّع في الناس سلاماً، وفي المجتمع عدالة
خاب فألهم، وخسِئ مسعاهم
إِن الأَرض لتتزلزل تحت أَقدامهم، وسيكون للشعوب المكافحة شرف القضاء على تلك الزمرة الباغية المتحكمة، مالاً وسلاحاً
نعم، نحن نجتمع وندعو إِلى الاجتماع أَنصاراً لسلام، لا أَنصاراً لحرب وننقضّ على مدى أَبعاد هذا الكون رعوداً تتصادى في الآذانِ لتسمع، وفي الأَدمغة لتستفيق وليس لنا، بعد ذلك أَن ننتظر ما يكون وما سيكون من أَمرنا مع الحكام لأَنهم هم أَنفسهم من الطينة الملوثة بالدماءِ، ومخازي التسلُّط
أَلهذا نُحاكَم؟
أَنكون، من أَجل هذا، محل اتِّهام، ومثارَ شغب؟
إِنَّ في محاكمتنا محاكمةً لهم، وأَيّاً ما كان نوع الحكم، فإِنَّ للتاريخ بناناً يُشير إِلى أَيِّنا يكون المجرم
وفي نزاهة القضاء عِصمةٌ له عن الزَّلل وضمانةٌ للأَبرياء
1955





دِيمُوقراطيَّة؟  مَنْ؟
 



هي كلمة تظَلُّ مُسيَّبةً مدلولاً ومفهوماً بغير إِضافة ديموقراطية من؟
أَيكفي أَن تلوكها الأَلسنة، وتدور في منازلها، وغير منازلها من كلام السادة، وخطب السادة وحكم السادة « النُجُب »  حتى تصير سمةً من سمات الحكم، وضرباً من ضروبه؟
أَهي كلمة تطلق، هكذا، إِطلاقاً، يقولها، أَو لا يقولها الحاكم يريدها، أَو لا يريدها، ساعة يشاء، وساعة لا يشاء كأَنَّها زاد مُحتَكر كمعايش الناس يخضع لقانون العرض والطلب، ومبدإِ الربح والخسارة؟
 
يُعجبني من الكلمة ما تحمل من معاني حروف، يُجَرُّ بها الشعب ثلاثاً: « من الشعب، وللشعب، وإِلى الشعب »
كما يُطربني الشعب كلمةً ذات مضمون يتغير ويتبدَّل واقعاً، كما يتغيَّر ويتبدَّل حكماً فلَكَم ظُلم شعب باسمه، وهو براءُ من حكمه 
وكثيراً ما تكون الديموقراطيةُ، لفظاً وإِعلاماً ديكتاتوريةً، في التطبيق  والعكس صحيحٌ أَيضاً
وأَياً ما كان، فهذه الكلمة تجيءُ في أَوانها من أَحداث التاريخ وتقتضي الجهرَ بها هذه الوثبات، وقد اتَّسعت بها خُطا السير نحو التحرّر، في هذه الرقعة الفسيحة من الأَرض العربية
 
أَقصى ما يطمح إِليه الإِنسان العربي، في أَيّ قُطرٍ من أَقطاره، أَن يكَون على وَلاءٍ مع الحرية، ومع الديموقراطية أَي أَن يكون لنضاله القومي محتويان توأَمان: محتوى تحرُّري، ومحتوى ديموقراطي، لا غنى له عنهما، وبدونهما لا قوة له ينتظمان الحكم على قدرٍ سواء، ويُلهمان العمل على ضوئهما، لئلا تنزلقَ الأَقدام في المهاوي الخطرة، وينتهي النضال القومي إِلى انحرافات، وانتكاساتِ مُهلِكة مُبيدة
في أَرض العرب شعوبٌ تتمطَّى، وتتململ تحت أَشِعةِ فجرٍ جديد، هي منه على موعد، أَقرب إِليها من ظِلِّها، وأَتبع
وفي ضمير هذه الشعوب حسٌّ عارم بالحرية وفي نفسها ظمأ لاهب إِلى الديموقراطية
عاشت حيناً من الدهر بين يدي حكم عبد، حكم المساومة، بين الحاكم والمستعمر
وفي مجال مدّها التحرري هذا، لا شيءَ يشدُّها إِلى الحاكم الذي ترفعه إِلى مركز السلطة مثلُ ولائه الصادق العميق للحرية، والديموقراطية، في أَبعادها المختلفة اقتصاداً وسياسة، وما يترتب عليهما من نعيم شعبي متطور، سعةً وعمقاً
والحاكم الذي يُعطيها، منةً  وكرماً  بعضاً من هذه الديموقراطية هو كالحاكم الذي يسلبها، تعِلَّةً  وشحّاً  بعضاً من هذه الحرية  ويكون موقفنا منه حينئذٍ لا على قدر ما أَخذنا بل على قدر ما لم نَنَلْ بعد
الطريق ما يزال شاقاً، عسيراً مليئاً بالأَخاديد والحفر، مزروعاً فخاخاً وأَشواكاً مؤامراتٍ وخيانات ولا بدَّ من السير في هذه الوعثاءِ حتى النهاية
إِن الموكب العربي لا يندفع بقوةٍ وإِصرار وثبات، إِلى مقاصده وأَهدافه، ما لم تكن الديموقراطية ملءَ رئتيه، وروح نشاطه، ونظاماً للحكم في ربوعه
والشعب الذي يملا رئتيه نسيمُ الحرية ويعبّ من الديموقراطية ملءَ أَضلاعه هو مارد لا يُقهر، وعملاق لا تطاوله الأَقزام
لم تبقَ لنا قدرة على احتمال البغي، وطاقة على الأَغلال والاستغلال فمن يبغِ ويتطاول ويستغلّ لا يلبث أَن يغدو بين أَقدامنا تراباً في تراب
1956





نُحِبُّ الحَيَاة



نُحبُّ الحياة، لأَنَّنا نُحب اللّه
ولكنَّ الحياة ليست عمراً ويمضي ثم لا يعنينا أَن نعرف كيف يُعاش هذا العمر، وكيف يمضي؟
« الفصول تستغلّ ما بذرته الفصولوالأَجيال تستنبت ما زرعته الأَجيال »، وبين دركات الماضي ودرجات المستقبل سُلَّم الوجود المتكامل، وصيرورة الحياة الدائمة
الحياة ؟
إِنَّنا نبارك الحياة كما يقول « رامبو » الحياة لذة اللذَّات ولكنها ليست لذِّة سلبيّة ضائعة في خضمّ الآلام والمآسي
إِنَّها لذة إِيجاب تؤكد الشخصيّة الانسانية وتعزِّزُ الوجود المجتمعي، تصحيحاً وتصعيداً لَذَّة كفاح، ولَذَّة شعور بأَنَّ الحيّ الإِنساني الكائن نصف إِنسان، ونصف اله
قال وليد المغارة: « حقاً إِنَّكم آلهة » وقال مورني: « أَنت مبدئياً إِله ويجب أَن تعمل لكي تكون إِلهاً في الواقع »
أَلأَرض، ما فوقها وما تحتها، ملك الإِنسان الإِله وليست ملك الإِله الشيطان وهي صحراءُ قاحلة رملاءُ لا قيمة لها بغير هذا الإِنسان الذي يعمِّرها ويجمِّلُها بمنجزات علمه، في مدى كفاحه، لوحشيّة الإِنسان الشيطان الذي يدمّرها ويشنِّعها بمنجزات العلم نفسه
ولا لومَ على العلم فخيره وشرُّه في طبيعة الأَيدي التي تملِكه، والأَهداف التي تستخدمه
الإِنسان الإِله يُريده أَبيض ناصعاً يحمي الحياة من الدمار، ويوفِّر لها هناءَ الجسد، وصفاءَ الروج، ورخاءَ الذهن
وشياطين البشر تريده أَحمر قانياً بين النَّاب والمِخلب
كلنا يُحبّ الحياة
كلنا يعرف خيرها كما يعرف شرَّها وقديماً قال سقراط: « إِعرف نفسك » فجعل المعرفة أَساسَ الفضيلة
ولكنَّ المعرفة لا تقترن بواقع حيّ ما لم تقترن بإِرادة فاعلة وتُتَرجم إِلى نشاط عملي يكافح الرذيلة ضرباً على أَيدي مقترفيهاً، ضدّ الإِنسان، وضدّ المجتمع سواءٌ أَكانت في وقاحةٍ من عريها، أَم تلبّست بلباس الفضيلة الكاذبة ذئباً في ثوب حمل
في حياتنا السياسية صراع محموم في ملاحم البقاءِ ومعمعان الحرية وطبيعة الصراع نفسها تُحدِّد لكل منا طريق السير ومنهاج العمل، وتقذف به مضطراً في اتجاه الفضيلة أَو الرذيلة  أَهو مع الإِنسان الإِله، أَم مع الإِنسان الشيطان؟
وقول « أَرسطو »: « الفضيلة وسط بين رذيلتين » ينكره منطق الحوادث، ولا يقوله غيرُ المتردد بين الحق والباطل
والتردّد فسادُ الرأْي، ووجه من وجوه الجبانة والخذلان
الإِنسانية على شَفا ماساة
والإِنسان الإِله هو من يُحدِّد طريقه، ويدل الإِنسان الضَّال على معالم الطريق ومشرق الشمس
1956





ثقَافة؟  وَمثقَّفُون؟



« مُثقَّفون » ؟ نعم
ويحسبون أَنفسهم من طينةٍ غير طينتهم  ومن ذوي شرفٍ  غيرِ شرفهم 
أَوَ تعرف إِلى من يعود الضمير المتَّصل المجرور؟
إِلى أُولئك الذين لا يُزيِّن جدار كوخهم إِطارٌ مُذهَّب، يحتوي ورقةً ممهورةً بتوقيع « أَحدهم » أسمُها ؟ الشَّهادة 
نعم « مثقَّفون »
يأْكلون بالشوكة والسكِّين، سمكاً ودجاجاً وما تعرف، وما لا تعرف من أَلوان الأَطعمة والحَلويات، والفواكه
يثرثرون في فرص فراغهم، ومجالس لهوهم ويجترُّون 
يُصنِّفون الناسَ، والكلامَ، والأَشياءَ ويتفرجون، غاضبين، أَو راضين، على المجازر تُصطَنع، لتُسفَك فيها الدماءُ بحقٍ، وبغير حق 
يمارسون حياةً مزوَّرة، ويتعثرون في وجود تافه
يُطوِّفون  وما أَكثرَ ما يطوِّفون –  في تثاؤبٍ كسول، حول أَصنام وأَوثان
هؤلاء
طرازٌ من الناس من لحم وعظامٍ وأَمعاء آدَمِيُّون تقع عيني عليهم كل يوم، في قريتي في محيطي في وطني
الحرية عندهم أُنشودة تُغنَّى
يُغنُّونها مسحورين برنين حروفها، باردة جامدة  ليست  في مفهومهم، وهي المنكوبة بهم، درجةً لازمة مُلزِمة، من درجات النضال الوطني، سياسة واجتماعاً، بقدر ما هي تحلُّلٌ من إِسار الواجب، وانسياق سادرٌ وراءَ الهوى، في تفلُّتٍ فردي منغلق على تعصب، ومنطوٍ على نفع ذاتي، لا تتسع حدوده إِلى أَبعد من « الأنا » المستعلية في ضعةٍ وانسحاق
لبنان، عند هؤلاء، ولعلَّ نكبته بهم أَدهى منها بسواهم، سُوقُ تجارةٍ مزدهرة، تُسرق فيها القلوب والجيوب
وشاطئ جميل، تستحمّ في دافِئ مياهه صبايا فاتنات، وتستلقي في مصبّ الشعاع على رماله « بحرية »؟  ونعيم مزدهرٍ رَخِيّ
ولبنان، مع ميزاته هذه، وأَشباهها، لا يمكن أَن يكون « قطعةً من الصحراءِ » بقدر ما هو « جزيرة عائمة في ما وراءَ المحيط « 
 
« ثقافتهم »  في ضحالة معناها لا تُجيز لهم، الاقتناعَ، أَو الاعتراف بعروبة لبنان، شعباً وتاريخاً وكياناً
ومخاوفهم  وهي أَحد مُعطيات، هذه « الثقافة »  تسجنهم تضبُّ عليهم في قوقعة التعصُّب، والاستعلاء الكاذب المقيت
وما لنا لا نُفصح؟
ما لنا لا نضع على الحروف نقاطها الدالَّة، ليستبينَ الخطرُ بهؤلاءِ  فنراهم رديفاً جاهزاً للرَّكب الاستعماري بشتَّى أَسمائه، كلما شاءَ أَسيادُه، وأَسيادهم، أَن يَدُقُّوا من لبنان بابه الغربيّ
ولعلَّنا نظلم الثقافة، مبنىً ومعنىً وكرامةَ أُصول إِذا زعمنا لهؤلاءِ نسباً شريفاً يشدُّهم إِلى جمهورية المعرفة والثقافة
أَقول هذا مقتنعاً بأَنَّ من يفهم الحرية كما يفهمون  ويمارس الثقافة كما يمارسون  ويعشق لبنان كما يعشقون، لا يُحَقُّ له، والحالة هذه، أَن يتمتَّع بلقب « مثقَّف »  مهما تعلَّقت إِلى جدران منزله صور الشهادات ومراسيم الأَوسمة وأَلقاب الدكترة 
 
للثقافة مثلها الأَعلى، لا يخونه أَبناءُ جمهوريتها
وهو يعني، في ما يعني، وأَوَّل ما يعني، انتصارَ الإِنسان، واحترامَ الإِنسانية في الإِنسان
كما يعني سيادة الحياة، والحب، والسلام
1957





ألرأسُ الجيب وَالضميرُ الكيس



قال لي « صاحبي » وقد غاب عني وجهُه قُرابة عام:
« ما رأْيك بالانتخابات »؟
لم يكن سؤاله مما يُطرح جزافاً فـ »صاحبي » مفتاح انتخابي وزيارته لي، ليلاً، ليست من قبيل سؤال الخاطر فما يهمّه شيء، كما تهمُّه معرفة الجهة، أَو اللائحة التي أُناصِر، لما لهذه المناصرة من نفعٍ له عميم
« صاحبي » هذا، ما رأَيته مرةً، إِلا لأَمرٍ ما، أَو لحاجةٍ يُريد قضاءَها يتزلَّف إِلي كما يتزلَّف إِلى سواي، في المواسم، ولاسيما موسم الانتخابات
وكثيراً ما حاول إِقناعي بأَفضلية هذا على ذاك
والأَفضلية في عمق أَعماقه هي كيس هذا، لا عقله، ولا خلُقه لا عفَّة يده، وشرف موقفه، وصلابة وطنيته
والوطنيّة، في مفهومه، تحدِّدها المنفعة منفعته طبعاً  ومنفعة من يصيبهم رشاش من ذلك الكيس الورِم
ولا تسل، بعد ذلك، كيف يفلسف الوطنية والأَفضلية، ويحملهما ما ليس لهما، ذهاباً مع منطق المنفعة
ولا تسلني كيف كان موقفي من سؤاله  سلني كيف انهزم متعثراً بخيبة أَمله، على نحو ما اعتاد أَن يتعثَّر
ليس في سلوك هذا المفتاح الانتخابي أَيُّ غرابة
فهو تاجر انتخابات يَدٌ تأخذ وتعطي وصفقات تُعقد في سوق العرض والطلب
وهو، لذلك، أَحد الخفافيش البشرية التي لا ترى إِال ليلًا، حتى إِذا مسَّها النور ارتطمت بالحائط
وفي موسم الانتخابات لا تراه يعمل وينشط ويزور إِلا ليلاً
إِذا سلَّطتَ نوراً كاشفاً على هذا أَو ذاك بحيث يتعرَّى من زيفه، ونفاقه، ليرى « صاحبي » حقيقة عوراته، انقلب الضياءُ في عينيه ظلاما
وإِذا أَشرتَ إِلى « وطنية »  هذا دون ذاك، أَو ذاك دون هذا، وكشفتَ مواقفه ماضياً وحاضراً تحسَّس صاحبي جيبَه، وشمخ برأْسه، كأَنَّ رأْسه سنبلة فارغة فقدت خيِّر العطاء
تُحاوِل ؟ ولكن عبثاً تحاول إِقناعَ شخص بشرف الضمير ومنطق العقل إِذا أَصبح رأْسه جيباً، وضميره كيساً
1957





تهافتٌ على الكسْب وَلو رخيصاً



بيننا من يمشون على اثنتين في مناكب هذه الأَرض، ويمارسون الحياة بوجهها السلبي
يواجهون الأَحداث بهزِّ الأَكتاف
سلوكهم تهافتٌ على الكسب ولو رخيصاً
أَمسِ التقيتُ أَحد هؤلاءِ، فسأَلته رأْيه في ما ظهر أَو استتر، من شئون السياسة والحكم، مما له علاقة مباشرة أَو غير مباشرة، بنظام السلب والنهب، تحت ستارٍ من ضباب الرخاءِ والازدهار ؟
فهزَّ كتفَيهِ ومَطَّ شفتيه، وأَدار وجهه استخفافاً، حتى لظننتُ أَنَّ بيتَ هذا المخلوق الماشي على اثنتين، في القمر، أَو المريخ لا في زاوية من زوايا هذه الأَرض التي هي وطن
ونصح لي بقوله: « دع عنك هذه الاهتمامات إِنها لا تنفع وفتِّش عما يملأُ كيسك »
وأَضاف: « إِن للحياة لذةً، هي لذَّةُ الأَخذ والعطاء » ولكنه لم يُحدِّد لي مقياس الأَخذ، ومقياسَ العطاءِ
وسار في طريقه ثم جعل يتضاءَل ويتضاءَل حتى غدا ذرَّة من غبار، بين أَقدام المارَّة
 
ورحت أَتساءَل أَصحيح أَن هذا المخلوق يعيش بلا همّ  بلا همٍّ سياسي  بلا اهتمام
يبدو لي أَنَّه لا يفكِّر  أَصحيح أَنَّه لا يفكر  ولا يتدخل في ما يُسمَّى سياسة
هل أَراد أَن ينثر عليَّ هذه النصائح « البليغة » ليُريحني من همومي  من اهتماماتي  ويكسبَ لحزب « اللامبالاة » عنصراً جديداً  أَم هو يتدخَّل بقدر ما يكون ثمن التدخُّل، وأَجر الكلمة وجُعالة المقال  دونما التفات إِلى ما يجرُّه ذلك على وطنه، وهو صاحب قلم، وثقافة  من خرابٍ، واحتلال وبؤسٍ وتقهقر
لعلَّ ذلك كذلك 
يقولون: اختلت موازين الأَخلاق في هذا الوطن ويطلقون القول إِطلاقاً على أَنَّ موازينَ بعضهم اختلت موازينَ الحاكمين وأَتباعهم واستقامت موازينُ الكثرة الكاثرة من أَبنائه
ولا عجب، بعد ذلك، أَن ترى في القطيع عنزةً جرباء
من الأَقلام ما هو مقنبل بالشرف، والصدق والنزاهة  يفجّر في كل يوم قنبلةً تميت، وتحيي تهدم وتبني
وذوو هذه الأَقلام يتعاظمون في عينيّ قدر تضاؤل أُولئك المتهافتين على الكسب، ولو رخيصاً
ويشخص أَمامي عملاقاً قَلمُ « ولي الدين »، يوم قال ل « عبدالحميد »: « إِنَّ بين أَناملي قلماً يهزُّ أَركانَ عرشك هزّاً « 
أَلا إِنَّ القلم المهزوز، تخاذلاً وجبناً، ليتصاغرُ قِيسَ غبار، دون ذلك الذي يهزُّ العروش، ويسحق الطغيان
1958





وأرى الفَرّيسيّين في هزيمَة



مُنتصِب
كماردٍ في أُسطورة
وشامخ
شموخ الأَنف من جبلٍ باذخ
مكانٌ احتواني ذات يوم في أَحد مصايف لبنان
زاوية من وطني الجميل وحيّز صغير من الأَرض العالقة بمسابح النسور، ومسارح الهواء
 
وقفت على الشرفة أًتنفَّس ملءَ رئتيّ أَمُدّ بصري في الأَمداءِ البعيدة من آفاقه، والأَلوان القُزَحية من مناظره، والأَضواءِ الحالمة في لياليه
وفي نفسي ما فيها من لواعج تضجّ، وأَحاسيس تتزاحم
وطني هذا، في حدود المساحات، كيان جغرافي، على تخومه تندحر غزاة، ودون اختراق أَجوائه تنتحر صواعق
وطني هذا، أَرضاً وسماءً، تراباً وماءً، وطن شعب باسلٍ عريق، بناه حجراً لِصقَ حجر، وسماكاً فوق سماك فأَعلى وأَرسى على بانِيَتَينِ من حرية واستقلال
ووطني هذا، في الأَمداءِ الفسيحة من الفكر يتراحب إِلى البعيد البعيد من الحيِّز الجغرافي إِلى حيث ينبض كل فكر ويتململ كل قلب في آفاق هذا الكوكب
 
تزاحمت في رأْسي هذه الخواطر، تتخطَّى بي حدود الجبل، ورمال الشاطئ، حتى خِلت لبناني هذا -لا لبنانهم- فيلقاً من فيالق الحريّة الزاحفة في المدى الإِنساني الأَرحب يبني ويُعلي، في غده، صرح عالمٍ إِنساني أَفضل
من على شرفة الفندق في المصيف الجميل، وفي زحمة هذه الخواطر الوارفة، ترامت إِلى سمعي أَصداءُ أَصواتٍ ناشزة كأَنَّها أَصواتُ الأَبالسة تُحاول لملمَة فلولها المهزومة، علَّها تستطيع أَن تُسكِت في وطني، وفي خواطري، أَجراس الوعي تنعى، بطنينها الصابر، أَباليس الجحيم
هؤلاءِ الأَباليس
لهم في وطني أَعشاش وأَوكار دينارٌ ودولار
ولست أَخشى عليه في حدوده الجغرافية، وأَمدائه الإِنسانية شيئاً أَشدَّ وأَدهى من هؤلاءِ
لبنان الهيكل  لن يسمح ذوو الضمائر الحيّة المتعافية أَن يتحوّل إِلى لبنان المغارة  ولبنان الأُباة لن يتحوَّل إِلى لبنان الجُناة  وفي مُنعطفات التاريخ مواقف صامدة، لن يكون وطني فيها غيرَ ما ينبغي أَن يكون نغمةَ سلام، وأنشودة جمال ترددها السواقي وتهتف بها الأَودية صلاةً في فمِ الأَجيال
 
تحت تلك السماءِ الوضيئة كالأَمل الوضيء
وفي الشرفة المُطلَّة على الوادي أَمام منبسط الأُفق كانبساط الرَّجاءِ
تلوت صلاتي
بمثل إِيمان الرُّسُل وقداسة المؤمنين وغفوت علىضجيج خواطري في المساء، لأَستيقظ ذات يوم على جَلْجَلة الحياة تتعقَّب الفرّيسيين والأَبالسة، في هزيمة الموت إِلى المقابر
1958





ضحِيَّة تَعصُّب ؟



قالها
والكلمات تُحشْرِج في حلقه، والدمعة تحترق في عينيه
رأَيتُه شبحاً هارباً من ظلمات القرون الوسطى، يهتزّ هلعاً، ويرتجف رِجفة الجدار المتصدِّع على زلزال
هذا الشبح إِنسانٌ بريء ليس له في لهيب الشرارات المستطيرة قَدْحُ زناد، ليكون له من أَلسنتها بعضُ الحرائق  على جسمِه ووجهه، ومكان الحياءِ من جسده
عثرت به في مناكب الطريق، ضحيةً من ضحايا التعصُّب الأَرعن، في مثل ضراوة الوحوش الجائعة إِلى الفريسة
حتى لكأَني ارتبت في أَن يكون هذا التمثيل الشنيع في إِنسان، من صنع إِنسان
وَبِت لا أصدِّق أَنَّ « إِسلاميةَ » هذا الإِنسان، أَو « مسيحيّته » تكون له كفناً، أَو تكون لتعذيبه، وتشويهه على هذا النحو البربري، سبباً من أَسباب الدين
وبِتّ لا أصدِّق أَيضاً أَن بلداً أَزعج العالم بالدِّعاية لنفسه وأَصبحت كلمات « النُّور » والإِشعاع، و »الإِنسانية » بعض صلواته اليومية، وأَناشيده الوطنية، تزدحم في نفوس بعض فئاته حوالك الجهل، ونوازع البربرية إِلى الحدّ الذي وصلت إِليه موجة الجنون في اجتياحها، وطغيانها على ناسِه وأَرضه
أَقول هذا تخصيصاً، لا تعميماً
وأَنا أَعني فئة من الناس كانت وما تزال تُخفي في طاقة الزهر مديةً مسنونةً للقتل وتجعل من أَسماءِ الدِّين إِعلاناً للتجارة، وستاراً، وراءَه كلّ ما توحي به النفوس الأَمّارة بالسوء ولها قدرة الدجل والشعوذة على تظهيره، لفريقٍ من الناس أَنه دِفاع عن دين، في نطاق دفاعٍ عن سيادة
وهو في حقيقته غرور عنصري يدور، كيفما أَدرته، في إِطار واحد: هو الاستغلال المادِّي، والنفعية الشرهة، ونوع من التماس أَغراض غير شريفة وغير وطنية، بوسائل إِنسانيةٍ شريفة
وإِني أَميل إِلى افتعال العذر أَحياناً لهذا القطيع من البشر يتهوَّر كما يتهوَّر قطيع الأَغنام، تسوقه عصا الراعي سوق الغريزة، لأَنه هو نفسه لم يتخطَّ بعد حدود الغريزة الغشيمة، في مجال السلوك
وقد لا يُثير ذلك التهوُّر غير قليل من الغرابة ما دامت غريزة هذا الفريق غير واعية، وغير مفكرة
ولكنَّ العجب كله في أَنَّ من ينصِّبون أَنفسهم قادةً وزعماءَ يشتطُّ بهم الغرور فلا يرون في مراكز القيادة والزِعامة غيرَ ذواتِهم، وغير أَشخاصهم
وهم لا يستطيعون أَن يروا غيرَ منافعهم وغيرَ شهواتهم
سواءٌ عليهم أَن يجيءَ النفع في أُسطول مُغير عدواً محتلاَّ، أَو أَن يجيءَ في شكل من أَشكال مناضَلَةٍ « للاستعمار » العربي؟  أَو في الاثنين معاً
المهمّ نفعٌ مضروب بنفع، ومقسوم على
المحاسيب والأَعوان ؟
 
إِنَّ الذين يريدون النجاة من « استعمارٍ » موهوم يتحتَّم عليهم أَولاً أَن لا يكونوا عملاءَ لاستعمارٍ مقيمٍ وقح
وأوَّل واجبات من يدَّعي الدفاع عن سيادة الوطن أَن يكون هو نفسه سيداً، لا مَسُوداً ، وأَن يرفض جميع امتيازات الاستعمار في وطنه  فلا يدور في فلك الاستعمار دوران الفراشة  ويستغلّ غرائز فريقٍ من النَّاس باسم الدفاع عن الوطن لحرق الوطن في أَتون الاستعمار نفسه
هذا هو منطق السيادة
وهذا هو معنى الحفاظ على السيادة
أَمّا أَن تكون الجرائم التي ارتكبها بعض المهووسين تعني الدفاع عن المسيحية؟  فالمسيحية كما نبعَت من قلب رائدها لا تعترف بأَي سلاح يُشهر باسمها وليس لهذا الطراز من الناس الذين يحملون اسمها، على تذاكر هُويَّاتهم، أَيّ مكانٍ في معبد حبِّها وهيكل صلاتها
في أَيّ إِنجيليَّةٍ وردت هذه البربريّة؟ في أَي صيغة من صَيغ الدين جاءَ مبرِّر القتل على صعيد الدين نفسه؟
كذِبٌ هذا  وباطل شنيع
إِنها السياسة التي لا تعرف الدين، ولا الإِنسانية، سياسة من قذرت نفوسهم بقذارة جيوبهم، فكانت تجارتهم دِماءً بريئة
وكان الدين براءً منهم براءَة العبير من نَتانة القبور
1958





كلُّ ذي قلمٍ مَسْئول



قال بوذه: « إِني لا أَعرف شيئاً عن سرّ اللّه، ولكني أَعرف أَشياءَ كثيرة عن بؤس الإِنسان »
أَرأَيتَ أَروع من هذا القول؟  يَهزُّ العقولَ الشاعرة، والقلوبَ المفكِّرة؟
إِنَّه موعِظة، ولكنَّها غيرُ ثرثارة  إِنَّه معرفة بأُصول الشرّ، ببؤس الإِنسان
للشرِّ أَسباب كما للخير، بوجودها يُوجد، وبانتفائها ينتفي
وأَينَ هي أَسباب الشرّ؟ في الماوراء؟  أَم في طبيعة النظام الشرير؟
أَين يتجذَّر الشقاءُ البشري، فقراً وجهلاً، ومرضاً وجوعاً واضطهاداً، وقلقاً؟ أَهو خارج عن إِدراك عقلنا، وأَعمالنا، ليتنامى في غير حيِّز المعقول؟
أَين هي قيمة الحياة؟
أَليست في الحياة نفسها؟
بين جبهة الموت، وجبهة الحياة سعير معركة دائمة يكافح فيها أَبناءُ الحياة للحياة نفسها دفاعاً عن مستواها الإِنساني مادّةً وروحاً وفكراً وعيشاً
وكُلُّ ذي قلم يخطُّ حرفاً في سطر مسئول عمَّا يكتب مسئولٌ إِذا كتب، ومسئول إِذا لم يكتب ولا بدَّ له من موقف، لأَنَّ موقفه هو الإِنسان الذي فيه
إِنَّه يعرف أَشياءَ كثيرة عن بؤس الإِنسان
فلتكن نبضة قلمه، ولغة فؤاده واجبُه أَن يُنير، وأَن يستنير، أَن يتدخَّل مع الخير لتغليبه، ومع السلام لانتصاره، ومع الحبِّ لانتشاره
فإِذا كنت في عزلة عن تغليب الخير، فإِنَّما أَنت ضالع مع الشرّ لأَنَّ عدم التزامك موقفاً من الصراع، وطبيعة المعركة، يعني أَنك التزمت موقفاً، شئت أَم أَبيت
وليس لك أَن تختار ما دمت إِنساناً
ليكن قلمك منحازاً، لا محايداً، في الدفاع عن القضية العادلة، ولاسيما تلك التي تتعلَّق ببؤس الإِنسان
1959





نواهٍ أَدَبيَّة



1 – لا تكن من الحياة بمنزلة النعل من القدم كُن منها بمنزلة النسر من القِمم
2 – كن جامعاً بين العظمة والتواضع، وبين الكِبرْ والكرامة إِياك أَن تطلب الرفعة عن طريق الضعة، ففي المستنقعات تولد الحشرات
3 – كن حرّاً مع التفكير، وجريئاً مع الحكمة، ومتجدداً مع الحياة ولا تكن قرداً يحاكي غيره في كل شيء
4 – لا تجالس إِنساناً يعبث بكرامتك، ويحتقر مواهبك، ويمسّ معنوياتك، ولو حمل الشمس بيمناه، والقمرَ بيسراه جالس من يزن نفسك ونفسه بميزان الحياة الواحد، ولو كان من سكانِ الأَكواخ، وأَبناء السبيل
5 – لا تحترم ابن الشرف الموروث إِلا بمقدار مواهبه، وأَهليته، وإِنسا نيته
6 – لا تحبُ إِلى أَبواب المتسلطين متزلِّفاً ولا تخشَ ظلم الحكام القائمة عروشهم على الجماجم فروحكأَسمى من عروشهم وأَوسع من ممالكهم وفي يديك وأَيدي أَمثالك الضعفاء قوة تهدم عروشهم وتمزق تيجانهم
7 – خالط طبقات الشعب، وامتزج بالجماهير فالكلمة الأَخيرة لهم ومن أَحشاءِ هيكلهم ينبثق التاريخ
8 – كن طالب علم – دائماً وابداً – في طفولتك وشبابك وهرمك، لأَن مدرسة الحياة غزيرة المادة، وابن الحياة منهومٌ لا يشبع
9 – لا تهتم بما كان واسْعَ إِلى ما سيكون وانظر إِلى الغد بالمنظار الأَبيض لتكون دائماً في تطورٍ وارتقاء
10 – الحيوان يعيش ليأْكل والإِنسان يأْكل ليعيش فكن إِنساناً يعيش ويحيا، لا حيواناً يأْكل



تعليقات، ملاحظات وهوامش
 



(1)كُتِب في أعقاب اجتماعات لأهالي قريتي -اجدبرة- تحت زيتونة الكنيسة في أحد الآحاد أرسِل إلى جريدة « رقيب الأحوال » ولم يُنشر  1934
(2)ما أشبه الليلة بالبارحة  
(3) من آلهة الفينيقيين
(4)« ابو أُذبنة »
(5)ابو كعيب
(6)وقد أصبحت في الستين او أكاد
(7)دفاعي أمام محكمة البترون المنفردة 1953 الرئيس الاستاذ يوسف جبران وبين المحامين المتطوعين المحامي: الاستاذ يوسف الشيخاني
(8)أَصدر القاضي الأستاذ يوسف جبران حكماً ببراءتي هو قلادة زهورٍ إنسانية في عنق القضاء، وسمة من سمات الفكر والأدب على جبينه نشرتهُ في حينه مجلة « المحامي » لصاحبها الأستاذ النقيب المحامي فؤاد رزق مع تعليق يليق بالقاضي جبران وفي كتابه « الإنسان والحق والحرية » منشورات عويدات – نصُّ الحكم كاملاً
(9)الوقفة الثانية كانت أمام القاضي حازم ذوق في أعقاب حكم القاضي جبران
(10)دفاعي أمام الحاكم الجزائي المنفرد في بيروت: القاضي جان باز وبين المحامين المتطوَعين الأستاذ ادمون ربَّاط والأستاذ عبدالله لحود والمتَّهمون الشيخ احمد عارف الزين، المهندس انطون تابت، الدكتور جورج حنا المحامي ادمون عون، السيد حسين سجعان، والمؤلف، وكان النائب العام شكري سابا والحكم براءة
(11)هيئة الأمم
(12)ثورة اللبنانيين على العباسيين بقيادة « بندار » المعروفة تاريخياً بـ »ثورة المنيطرة » سنة 759 في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور وقد احتج الإمام الأوزاعي على العباسيين مستنكراً الإبادة الجماعية